تاريخ المكياج بين الخداع والتجميل والإغراء
رنيم العامري/
يشدو المغني الذي أطرب فارسنا (دون كيخوت) ذات ليلة: “بما إنّ الحب والزينة يسلكان الدرب ذاته فقد أردتُ أن أبدو لعينيكِ أنيقاً دائماً.” لطالما قيل أن للجمال ثمنا غاليا.
في فيلمٍ لا أذكر اسمه تحديداً، تقول الممثلة التي تهمّ بنزع حذائها العالي، لصديقتها: “إنّ ارتداء هذا الحذاء يقتلني.
إذن لابد أنه يبدو جميلاً”. وهذا ما يدعى بـ (pain with pleasure) أو مبدأ الألم واللذّة. أو قد يكون الثمن اقتصادياً، فأحمر شفاه (كريستيان لوبوتان) يبلغ سعره (95) دولاراً. أو ربما قد يصبح الجمال هوساً، كما حدث مع (دوريان غراي) الذي قتلته صورته، ولأنه وقع في غرام وجهه، غرق (نارسيس) في محاولته لالتقاط صورته على صفحة الماء.
الوجه هو المساحة التي تسجل انفعالاتنا، فيضيء وينطفئ ليفضح سراً (ضوة خدّك مدري ضوة الكَمرة).
كتب (جيل تيبرغيان)، وهو محاضر في جامعة باريس حيث يدرّس علم الجمال: “أمعَن الوقت في تدميره، ونحتته التجاعيد بشكل مبالغ فيه، ذلك وجه الآخر الذي أنظر إليه بعناية، الذي أسلخه عن قيمته الشهوانية فأنتزع قصته القصيرة، وأعريه على وجه التحديد، لينكشف إلي أخيراً وباختصار كما هو”.
طقوس
قرأتُ في كتابٍ تأريخ المكياج لـ(مارتين تاردي) أن المجتمعات القبلية القديمة استخدمت المكياج لتحديد وضع الفرد داخل القبيلة، أو للتعريف بين أبناء القبيلة الواحدة، بينما لوّن الكهنة وجوههم لضرورات الطقوس الدينية.
للمكياج غايات بين الخداع والتجميل أو الإغراء، فاللون الأحمر دليل الخصوبة، أو قد تحمي المرأة (أو المتبرج) نفسها من الواقع، وهو كما الايماءات والكلمات يعكس حالة ذهنية، فنحن نلتذ بشعور السيطرة على الصورة التي نقدمها للآخرين عن أنفسنا حين نصحح أخطاء الطبيعة وخبث الزمن. وقد أعتمد لون الجلد طويلاً لتحديد المكانة الاجتماعية للأفراد وتمييز أبناء الطبقات الراقية ببشرة فاتحة، في حين يعمل الباقون بجدٍ في المناجم والحقول. في مهنة مثل التمثيل فإن المكياج وسيلة للتحول الى الآخر والتواصل مع الجمهور، ففي هذا التبرج تتبدد تعابير الممثل وتولد الشخصية.
السيطرة على الجسد
الوشم يُعدّ نوعاً من الزخرفة الدائمة، وهي شهادة على حالة شخصية أو الانتماء الى مجموعة أو إشارة الى النشاط الجنسي أو الفردانية كما يعتقد بعضهم. فهو تصريح واضح بوجه العالم (لدي السيطرة المطلقة على جسدي). وهو أخيراً من علامات الولاء والانتماء الى مجموعة معينة. في الفيلم الشيق (وعود شرقية) يقوم خبير الوشم الروسي في مشهد طقوسي واضح يشهده رؤساء العائلة بوشم نجمتين على ركبتي الممثل (فييغو مورتنسن) كعلامة لانتمائه إلى المافيا وهو نوع من بطاقات التعريف، إذ كل مافيا (عائلة) لها وشم يخصّها. بالضبط مثلما تفعل قبائل الأحراش في أفريقيا.
وتختلف المجتمعات والديانات بين رفض وتقبّل، فهو محاولة لتغيير صنعة الخالق والتفوق عليه، فيقع المتبرج في خطيئة الكبرياء. وقد ينظر للمتبرجة كداعية للإغراء، فالمرأة الصحيحة الجسد والروح لا تحتاج للتصنع، وعكسها فاحشة المظهر ستطرح علامات استفهام حول فضيلتها.
وطالما كان الحديث عن الجمال إذن لابد من ذكر الحضارة المصرية التي قدمت لنا العينين المكتحلتين بالأسود وعُرفت باسم (mesdemet) وتعني تسميته (الذي يجعل العينين تتحدثان). المصريات كنّ يبجلن الجمال ، فالحاجبان ممدودان ومطليان بالأسود، وتحضير أحمر الشفاه يستمدّ من صبغة حمراء وشمع العسل وهو خليط أُجبر العبيد على مضغه كي يكسب التماسك المطلوب. وبعد الإنتهاء من المكياج تبقى اللمسة الأخيرة، وهي الشعر المستعار الذي يعلوه مخروط من العطور. تحت الشعر المستعار المصنوع من شعر الخيل أو الحرير أو شعر حقيقي مظفور أو مجعد، كانت الجمجمة حليقة الشعر كما تظهرها التماثيل الفرعونية.
“عين حورس”
ووجدت في العديد من المقابر المخطوطات التي تحتوي على مكونات وصفة كفيلة بإعادة الشيخ الى صباه، ووجدت أيضا أنابيب الكحل وجرار مساحيق التجميل ومرايا مصقولة من الفضة وأمشاط شعر وملاقط. وزينت التماثيل حتى نفسه بـ (عين حورس) تميمة الحظ يحدها خط طويل من الكحل.
في اليونان كان التجميل جزءاً من الطب، ولم يكن الجمال إلا تناغم أجزاء الجسد، أما النساء المتبرجات فيقضين على التناغم الذي أوجدته الطبيعة. وفي بعض أجزاء اليونان تم حظر تلوين اللحم واستخدام مستحضرات التجميل التي اعتبرت مفسدة للنساء. وفي القرن الخامس والرابع قبل الميلاد توجب على المرأة في أثينا التمتع ببشرة باهتة والخروج دونما تبرج، فأضحى المكياج صفة مميزة للغانيات. وكان التجميل يقتصر على “تنظيف الأسنان بفرشاة تفيض بالمسحوق العطري، وقشط اللسان بشفرة عاجية، أما الفم فيُحتفظ فيه لبعض الوقت، بسائل عطري ينعش ويطيب النفس”.
الرجال يتجملون
وقد اعتاد رجال مصر على تزيين عيونهم بالكحل، وكان رجال ايطاليا يلونون بشرتهم بالأبيض دليل الصحة الممتازة بينما أبقت نساؤهم على بشرتهن اللون الاصفر وهو دليل الجمال الحضري واللامبالي.
الجمال لم يكن مجرد هبة من السماء، فهو يستدعي بذل جهد واستهلاك مستحضرات تجميل في صناعة لم تتوقف عن النمو في هذا القرن، في العام 1915، السير ويليام وهو كيميائي أمريكي صنع لشقيقته ميبل Maybel الواقعة في الحب، ماسكارا مركبة من الدخان الأسود والفازلين، وأطلق عليه تسمية ميبلين Maybeline، وهي تسمية تمزج بين ميبل والفازلين.. بعده صارت شركات مواد التجميل، تتسابق على إنتاج هذا المنتج المرغوب من النساء، بماركات تنافسية.