العُشّاق !

317

جمعة اللامي /

افتقدت غريب المتروك طيلة الأيام الأخيرة، فتفقدته هناك وهناك، حتى وجدته في “قصر الرمل” قبيل صلاة المغرب، يطيل النظر إلى البحر. وعندما دنوتُ منه، سمعته ينشد شعراً، ويردد حِكَماً، وبين ذاك وهذه يطلق ضحكات عاليات، فخفت على صاحبي من تهمة هذه الأيام، فما أسهل ما يُتّهم المرء بأنه مجنون، إذا ما اقترف عملاً عاقلاً.
“من يستطيع التغلب على ألف رجل في ساحة المعركة ألف مرة، هو مساوٍ للذي يتغلب على ذاته. وذلك هو النصر العظيم” ـــ بوذا.
ولما ألححتُ عليه بالتوقف عن خطابه، لئلا يسمعنا أحد، فيتهمنا “بإشاعة الكراهية” أو الحضّ على “معاداة السامية”، ونحن من هذه التهمة براء، رفع من وتيرة صوته:
قالوا الرُكوبَ فَقُلنا تِلكَ عادَتُنا … أَو تَنزِلونَ فَإِنّا مَعشَرٌ نُزُلُ !
قُلت: يا غريب، هذا بيت للأعشى، اعتبره أبو العلاء المعّري أشجع بيت شعر قالته العرب.
قال المتروك: صدقت، وصدق أبو العلاء حين قال إن أغزلَ بيت شعر عربي هو قول الأعشى أيضاً:
غَرّاءُ فَرعاءُ مَصقولٌ عَوارِضُها .. تَمشي الهُوَينا كَما يَمشي الوَجي الوَحِلُ !
قلت: رفقاً بي، يا صاح، فأنا رجل فقير بمعاني لغة العرب، فهل تلطفت وشرحت ما قال الأعشى هنا؟
قال: الغّراء: البيضاء. فرعاء: كثيرة الشعر طويلته. العوارض: ما يبدو من الأسنان عند الابتسام. الوجي: الذي حفي قدمه أو حافره. والوَحِلُ: الذي تغرق رجلاه في الوحل.

ضحكتُ، وضحكتُ، وضحكتُ، فخشيت أن يخالني صاحبي على غير طبعي، فتوقفت مغرورق العينين، فسمعته يقول: من حقك أن تضحك كثيراً.
قلت: أَجادٌّ أنت يا غريب؟
قال: أيْ والله، فإننا في السياسة، والاقتصاد، والحرب، والسلم، بل وحتى في الثقافة، نمشي كما يمشي الوجي الوَحِلُ.
قلت: وكيف نخرج من هذه الوَحْلَةِ؟
قال: علم ذلك “عندهم”!
قلت: من هم؟
قال: الذين هم ملوك المؤسسات الخفيّة. ألا تراهم يطلعون علينا بخريطة جديدة، مع كل ظهور لعاشق لبلاده على اتساع خريطة أرض العرب؟!