صديقنا ياناروس
جمعة اللامي/
الحسابات الطيبة، تخلق الأصدقاء الطيبين
“كزانتراكيس”
وكذلك، اسماعيل المهدوي، صديقنا أيضاً!
كنا قد اخترنا أصدقاءنا الطيبين، في أزمنة قلّ فيها الأصدقاء الطيبون، وهذه مأثرة من مآثر نيكوس كزانتزاكيس، الذي خلق حوله فضاء غير محدود النهايات، لأصدقائه الطيبين، ما بين الحانة والكاتدرائية، الجبل والمدينة، وبوذا ولينين.
وكان تعرفنا عليه، قبل زوربا، في رواية “الإخوة الاعداء”، ذلك العمل الفريد الذي أطل علينا من خلاله الأب ياناروس، مع مجموعة من المحازبين من الملكيين والجمهوريين، في الحرب الأهلية اليونانية، بينما كنا، نحن جيل الستينات العراقي، بين سجين، وهارب من سجن، أو متخذين من حانات شارع أبي نواس، مكاناً خاصاً لترتيب الفوضى وتكايا نحاسب فيها أنفسنا، ومنارات نهتدي فيها أيضاً، الى مآلاتنا اللاحقة.
كان ياناروس “يفهم” الملكيين المرتبطين بالكنيسة، و”يتفهم” الجمهوريين اليساريين المعنيين بالاشتراكية ومجتمع الرفاهية الموعود، أي أنه لا يرفض الجنّة السماوية التي يبشر فيها المسيح ويتوق من جانب آخر الى الجنّة الأرضية التي وعد الناس بها كارل ماركس، لكن هؤلاء الدعاة كانوا يتعاركون بمختلف الأسلحة، اللسانية والحربية، فيشوّه بعضهم بعضاً، ويفتك الآخر بابن بلده بالسيف والديناميت والشنق. وكان صديقنا ياناروس يحزن لهذا كله، بل كان حزنه الأكبر أن حرب “الإخوة الأعداء” لم يوفر المقابر الملكية والجمهورية، فكان هو يقوم بجمع “عظام الأجداد” في كيس كبير، ويسير بها بين صفيّ المتحاربين الذين كانوا يحملون “إنجيل” المسيح و”رأس مال” ماركس.
إنه لتعسف أن أقف هنا عند الحديث عن ياناروس، ولكنه تعسف ايضاً، أن لا أفي المهدوي حقّه بكلمات، كلمات وجيزة فقط، على عادة الجاحظ الكناني البصري، كان المهدوي متحمساً لأفكار العدالة والاشتراكية، ورأى في عبد الناصر “طريقاً للاشتراكية العربية”، لكنه بعد أن تسلّم السادات السلطة، خسر هذا الحلم ايضاً، حتى وجد نفسه في “مصحة عقلية” ينادي في إحدى غرفها، على رفاقه السابقين: “أيها الرفاق.. غورباتشوف باعنا الى الإمبريالية الأميركية”.
وما يزال يساريون عرب، من مستوى المهدوي، ينادون من غرفهم في المصحات العقلية، بنداء “المريض المصري” تماماً.