كلمة أولى

975

رئيس التحرير/

أيام الحنين

عندما كنّا في المنفى، طوال مايقرب من ربع قرن، كان الحنين للعراق وللأهل والأصدقاء يجري في دمائنا أو «يأكل ويشرب معنا» كما يقال، ولم تكن تمضي أمسية، تجمعنا في بيت صديق نقرأ فيها الشعر ونغني، لا تنتهي بالنحيب والبكاء، حتى بدأ أصدقاؤنا من السوريين، حيث كنا نعيش بدمشق، يسأمون من جلساتنا الحزينة والكئيبة التي كانوا يشاركوننا فيها.

طبعاً كانت هذه المشاعر الفياضة غريبة عليهم، فهم أقل منا تطرفاً في مشاعرهم وأهدأ منا تعبيراً عن هذه المشاعر، ولم تكن أغنياتهم تشبه أغنياتنا في حزنها الدفين والعميق، ولا هم كانوا قد جرّبوا ماجرّبنا من مظالم الطغيان والاستبداد، التي عشناها فترة نظام الطاغية. فعلى الرغم من أن النظام في سوريا يحكمه البعث نفسه الذي كان يحكم بلادنا، لكنه لم يكن بدمويّة نظام صدام وبطشه بخصومه ومعارضيه. كنا نمر في حارات دمشق فنقرأ على واجهات بعض البيوت القديمة لافتات صغيرة وأنيقة تشير الى صاحب المنزل، فهذا منزل الرئيس شكري القوتلي، وهذا منزل رئيس الوزراء يوسف زعيّن، وهذا منزل حسني الزعيم، وهذا منزل أمين الحافظ. وهؤلاء كانوا خصوماً لنظام حافظ الأسد وماسبقه من أنظمه، وهم توفّوا وفاة طبيعية ولم يعدمهم النظام، بل ظلت عائلاتهم ومنازلهم مصانة ومحترمة، ليس كما عندنا في العراق، فنحن لا نعرف حتى اليوم قبور، وليس منازل، قادتنا وزعماء بلادنا السابقين، فهل من أحد يعرف (مثلاً) قبر الملك فيصل، أو قبر نوري السعيد أو عبد الكريم قاسم أو عبد السلام عارف؟

بعد سنوات من تلك الأيام توطدت علاقاتنا بأصدقائنا السوريين الذين درّبونا على نمط حياة آخر أقل توتراً وكآبةً وتذمراً، وصار الحنين الى العراق والى الأهل والأصدقاء، شفافاً نديّاً يشبه أغاني فيروز وموّالات وديع الصافي وحلبيّات صباح فخري..لكن هل كففنا عن سماع مناحات داخل حسن ورياض أحمد وسعدون جابر وياس خضر، كلا بالطبع !!