الريافة.. حرفة تندثر
ذوالفقار يوسف /
انحصرت حرفة الريافة في عدد قليل من العاملين فيها، بعد ان كانوا منتشرين في بغداد ومحافظاتها منذ عام 1910. وكباقي الحرف المهمة في العراق، وجدت لها مكاناً في طابور النسيان والإهمال، وباتت تندثر يوماً بعد آخر، منهية بذلك إرثاً عراقياً مهماً.
وكأغلب المهن اليدوية، تتطلب مهنة الريافة الدقة والتركيز في ممارستها، ولأنها مهنة دقيقة فإنها تتطلب الصبر وعافية النظر حتى يستطيع الرواف أن يتقن عمله.
الرفّاء والحرفة
يشار الى أن مهنة الريافة هي مهنة بسيطة، لا تقاس بباقي المهن إلا بقدمها، لكنك قد ترى تعقيداً في بساطتها، فقد تعيد اصلاح الملابس والسجاد التالف بشكل مثالي، لكنها لا تأتيك بمورود مادي كبير.
ترجع بدايتها الى القرن الرابع الهجري، ومن أهم مزاوليها آنذاك الشاعر الموصلي السري بن أحمد الرفّاء، نسبة الى مزاولته الريافة في ذلك الوقت، حيث لم يخلُ شعره من ذكرها، عندما سأله صديق له عن حاله فأجاب بأبيات تشكو ضيق الحال وقلّة الرزق من هذه الحرفة فيقول”وكانت الإبرة فيما مضى … صائنة وجهي وأشعاري …فأصبح الرزق بها ضيقاً … كأنه من ثقبها جاري.”
شارع الروّافين
تركزت مهنة الريافة في أغلب شوارع بغداد المهمة، مثل شارع الرشيد وشارع النهر، وايضا قرب الجامعة المستنصرية، أما شارع الروافين الذي كان يضم أقدم الحرفيين آنذاك فقد امتزج ببائعي السبح والعباءات والساعات.
عند دخولنا شارع الروافين لم نجد إلا محلاً واحداً فقط لأحد قدماء الحرفة، السيد خضير عباس(70 عاماً)، الذي يمارس هذا الحرفة منذ اكثر من 55 عاماً، والذي كان قد تعلمها من والده عباس الرواف. عند سؤالنا إياه عن سبب وجود محل واحد لريافة الملابس، أجابنا بحسرة “لم يبق منا الكثير، ونحن منتشرون في انحاء بغداد بالرغم من عددنا القليل، بعد أن كان هذا الشارع يضم اكثر من عشرين محلاً لحرفة الريافة، لم يبق سواي لمزاوله هذه الحرفة، حيث تحول أغلب المحال الى مهن اخرى، كبيع السبح والساعات والأقمشة، ولولا اعتزازي بالحرفة لكنت قد امتهنت مهنة اخرى تدر عليّ رزقاً أكثر أعيش من خلاله.”
أضاف عباس أن أغلب الأسماء المهمة في هذه الحرفة قد وافاهم الأجل، امثال رؤوف الرواف الذي تفنن في اصلاح الملابس الممزقة وإعادتها وكأنها جديدة، وعدنان الرواف وشاكر وأولاده في محله القريب من شربت زبالة. اما المتواجدون الآن في الحرفة فهم جاسم محمد ومحسن مطلوب وحيدرعلي وآخرهم مهدي الرواف الذي ترك المهنة قبل أشهر وتحول الى بيع السبح والساعات، حيث عزا ذلك الى أن مهنة الريافة قد قل الطلب عليها بسبب الاستيراد الذي جعل الأقمشة رخيصة الثمن، ما دعا أغلب الناس الى رمي الملابس المتضررة وعدم تصليحها.
الإبرة والصبر
لكل حرفة أساس في العمل، لكي يتقنها من يزاولها بصورة دقيقة ترضي الزبون، اما الريافة فأساسها الصبر والتأني. يحدثنا الحرفي خضير عباس من هذا الإطار فيقول:”عملنا لا يحتاج الى الأدوات كباقي الحرف التي تطورت مع التكنولوجيا الحديثة، كمهنة الندافة وغيرها التي اضيفت في ممارستها الآلات والمكائن المساعدة والبديلة للعمل اليدوي، وهذا أحد أسباب اندثارها يوماً بعد آخر، فأغلب مزاوليها من كبار السن، نال التعب والارهاق منهم، وقلّة التركيز في العمل تحدد جودته، فالإبرة الصغيرة هي الأداة الوحيدة التي يرتكز عملنا عليها.”
يضيف: “اما خطوات العمل، فرغم بساطتها عند رؤيتك لأحد الروافين اثناء عمله، إلا أنها معقدة جداً، فنحن نستخدم خيوطاً من أصل قطعة القماش المراد اصلاحه، ومن ثم ريافة الملابس بخطوات دقيقة كما تبنى المنازل، ولكي نرضي الزبائن يجب أن يتم إصلاحها على أكمل وجه وإعادتها كأنها جديدة. وبالرغم من قلة المال المستحصل من ريافة الملابس، إلا أني ما زلت أتمتع بعملي واتقنه، فلم ترجع لي قطعة قماش كنت قد أصلحتها، وهذا إنجاز لي بأن اكمل عملي بأمانة وإخلاص لمهنتي التي تعلمتها من والدي رحمه الله.”
الملك غازي والحاج عباس
مهنة الريافة لا تحتاج الى مكان واسع للعمل، فمحل صغير لا يتجاوز المتر المربع هو ما يحتاجه خضير عباس لمزاولة مهنته، إلا أن هذا المكان يمثل إرثاً حضارياً لما كان له من مواقف وذكريات لأكثر من مئة عام، وللشخصيات التي مرت على عتباته، ووقفت على بابه منتظرة اصلاح حاجتها. يشير خضير الى حدث كان قد قصّه عليه والده، حيث يقول”لقد مرت علينا الكثير من الأسماء المهمة التي طلبت منا ريافة ملابسهم، وأهمهم كان الملك غازي رحمه الله، فقد طلب من والدي ان يصلح له عباءته التي تمزقت، وقد حضر بنفسه الى المحل لإصلاحها، لكن المضحك المبكي الآن، هو مانراه من ساستنا الذين لم نرهم مرة واحدة يدخلون هذا الشارع للاطمئنان على أحواله، وأحوال مزاولي المهن والحرف من الكسبة، فلا اهتمام ولارقابة على الحرف والعاملين فيها.”
القوارض والنار
يحرص أغلب الروافين المتواجدين الآن في هذه المهنة، على ان تستمر مهنتهم رغم العوائق التي تحيط بها، فمن المستورد الى قله الطلب، بات عملهم يواجه الاندثار.
يقول مهدي الرواف مبتسماَ “أكثر الملابس والسجاد التي يراد اصلاحها، تكون ممزقة بسبب القوارض التي تعيش في المنازل او المحال، مع طبيعة العراقيين وعاداتهم في تخزين الملابس الشتوية، حيث أن أغلب الملابس قد تواجه التلف. اما السكائر فهي العامل الثاني في حرق الملابس مع انها كانت سبباً في انتعاش عملنا، واغلب الذين تكون ملابسهم محترقة هم من كبار السن، فلكل شخص حاجة يعتز بها ويحتفظ بها على مر السنين، إن كانت قطعة أثرية او هدية من صديق او لباس يحتفظ به لأهميته وجانبه العاطفي، فقد تجد أن اغلبهم يقصد الرواف لإعادة ملابسه كما كانت، ومهما مر عليها الزمن فانه يحتفظ بها ويتمسك حتى لا تتلف وبالتالي ترمى في النفايات.”
ريافة السِجّاد
تختلف ريافة السجاد عن ريافة الملابس، كما أوضح الحرفي مهدي الرواف، الذي يقول “إن عدم تطور الحرفة لايعني أنها تخلو من جوانب اخرى ذات اهمية غير ريافة الملابس، فريافة السجاد هي كبيع قطعة أثرية بالنسبة للقطع المستوردة والتجارية، بحيث أنها ذات مدخول كبير بالنسبة للعاملين بها لكنها تاخذ الكثير من الوقت في اعادة اصلاح السجاد.”
ويضيف: “أن العديد من حرفيي ريافة السجاد يقومون بإعادة إصلاح السجاد التالف للمحال المختصة ببيع السجاد، وبالتالي يقوم صاحب المحل ببيع السجاد الذي تم اصلاحه وكأنه جديد”، ويعزو ذلك الى عدم انتباه المشتري للقطعة الممزقة التي تمت ريافتها، لكن هذا العمل يخلو من الأمانة والصدق، لهذا أنا بعيد جداً عن ريافة السجاد، واريد ان “احلل خبزتي.”
تعليم بالمجان
لم تكن المؤسسات، حكومية أم أهلية، هي من تبادر في تنمية الحرف القديمة، والتي يهددها خطر الانقراض، إلا أن أحد الحرفيين البسطاء، والذي لا يتعدى محصوله اليومي اكثر من 10 آلاف دينار، هو من يحاول ان يبقي على هذا الإرث العراقي، حيث بادر باستعداده لتعليم حرفته لخمسة افراد، وكي لاتندثر قرر أن يقوم بتعليمهم مجاناً، لينقل موهبته ومهنته من جيل الى آخر، كما علمه والده وكما علم هو ابنه من بعده، رغم أن أحد أبنائه هو موظف في مؤسسة حكومية، إلا أن أمنية خضير ومهدي والمتبقين من الروافين القلائل هي أن تلتفت إليهم الحكومات المتعاقبة، وأن تجعل لهم حصة من الاهتمام بدلاً من سرقة اموال البلد، وتحطيم التراث العراقي، وتهديم ماتبقى من حضارة وادي الرافدين.