” السَّراير”.. حرفةٌ ارتبطت بالنخلة واتخذت من سعفها مادة أولية

1٬197

ذوالفقار يوسف /

بالرغم من المأساة التي تمر بها عمتنا النخلة وما تلاقيه من إهمال وقطع وحرق وامراض، إلا أنها ظلت تعطي، بلاحدود، تمراً وعسلاً وخيرات.
وشكلت النخلة مادة اساسية في تراثنا الشعبي وفي تفاصيل حياتنا، ولعل صناعة “السّراير” واحدة من قطاف النخلة. وكأي من الحرف الشعبية القديمة في بلاد الرافدين، وكتراث اتخذ له مكاناً في قائمة الحرف التي تأبى الاندثار، إلا أن ارتباطه بالنخلة العراقية كمواد اولية، وتفاوت وجود هذه الصناعات اليدوية تبعاً لكثافة النخيل في البلد وزراعته، بقيت صناعة السّراير تقاوم الاندثار.

فن ” السّراير”

ولابد لنا ان نشير إلى أن صناعة “السّراير” هي حرفة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بحرفة “الخوص”، لأن موادها الأولية هي من سعف النخيل. فقد اتخذت كل حرفة جانباً من السعفة لصناعاتها، ولكل حرفة أسلوبها وطرقها في صنع مايحتاجه الإنسان، إلا أنها تبقى صناعة يدوية بحته، لاتدخل في صناعتها اية مواد اخرى غير السعف فقط.

في هذا الاطار، يحدثنا صانع السّراير حسن رشيد ( 55 عاماً) فيقول لنا بينما يستمر بالعمل على احد الكراسي: ” تعلمت هذه الحرفة من والدي قبل اكثر من (40 عاماً)”، مؤكدا انها “مصلحة تراثية”، وان بداية ظهورها في بلاد الرافدين مرتبطة بالمناطق التي يكثر فيها النخيل، وهي تختص بالمناطق الوسطى من العراق وتحديداً بغداد وديالى والحلة وكربلاء المقدسة، أما في المحافظات الجنوبية فلا وجود لهذه المهنة بسبب ضعف تكوين السعف وقلة مقاومته في العمل جراء ملوحة الأرض، وان هذه الحرفة ليست فقط عملاً كباقي الأعمال التي يقوم بها الفرد، حيث تتميز بأنها غير مرتبطة باّلة، ولم تحل محل اليد أية اّلة كهربائية كبقية الحرف التي تطورت مع تطور الزمن، بل أنها حرفة تراثية فنية، حيث يجب ان يكون من يزاولها ذا ذكاء وفطنة ومعرفة ليتقنها باحسن صورة، وهذا أحد الاسباب التي تجعلها متوارثة من جيل الى آخر، فحب هذا الفن، وهو ان تصنع شيئاً مفيداً جميلاً وفنياً للانسان من مادة بسيطة كالسعفة، وهو ماجعل ابناءنا يتقبلونها بحب ورضى، ويتعلمونها بسرعة ليعلموها بعد ذلك لأولادهم من بعدهم.

في سوق الملحاني

إن الأسواق الشعبية التي تميز بغداد وتعطيها رونقاً خاصاً، وإرثاً لايندثر، على مر السنين، لابد وان تحتويها احدى الحرف الشعبية، هذا مارأيناه في احد الأسواق الشعبية في مدينة الكاظمية المقدسة، ألا وهو (سوق الملحاني) الذي تنهتي حدوده الخلفية بشارع “الخوّاصة”، هناك توسط حسن رشيد احد المحال ليحدثنا عن ارث هذه الحرفة وقال: “ان هذا الشارع يتميز بصناعة هذه الأثاث، فقد كان عدد مزاوليها ليس بقليل إلا أنه اليوم وبعد أن واجهت الصناعة بعض الظروف الصعبة، بقي عدد قليل من الحرفيين، وان الذين يتواجدون الآن هم اقارب، معللاً ذلك بأن توارث الحرفة هو ماجعلها تنحصر في قبيلة واحدة او قبيلتين كأقصى حد، وذكر أيضاً أن هناك سبباً آخر، هو عدم وجود مساعد او (صانع) لهذه الحرفة، اي ان جميع العاملين هم من اصحاب المحال، ويتقنون الصناعة بصورة جيدة، مضيفاً: أن تسميتها بـ”السرّاير” هي لأهمية صناعة السرير فيها، ولصعوبة اتقان صناعته بصورة محترفة.

آلية الحرفة

تعد عملية صناعة الأثاث من مادة “الجريد”، وهو الجزء المتبقي من السعفة بعد إزالة الخوص عنها، عملية صعبة تأخذ الكثير من الوقت، حسبما أوضحه لنا الحرفي حيدر حسين (46 عاماً) مضيفاً: “اننا نأتي بالسعفة ونقوم بتفصيلها وتقطيعها باداة تسمى (الساطور) بقياسات واحجام مختلفة، كل حسب الحاجة المراد صناعتها، ومن ثم تمر بالمرحلة الثانية وهي التشريح بالسكين وتقشيرها، ومن ثم بعد ذلك يأتي دور أداة نسميها “المعلم” وهي عبارة عن مسمار محمول على خشبة، نقوم بواسطته بتأشير السعفة ليتم تثقيبها بعد ذلك بواسطة اداة تسمى (السّمبة) ومن ثم نقوم بدقها ونصبها بواسطة (ساطور صغير) لتقوم بعد ذلك اليد بعملها بتجميع الخشب بعضه مع بعض من خلال الثقوب، وتكوين الحاجة المراد صناعتها، كأقفاص الدجاج والبلابل، والأقفاص التي تحمل الفاكهة، كمواد بسيطة الصنع، أما الأسِرة الكبيرة والصغيرة، والكراسي الكبيرة منها والصغيرة، والمكاتب، فهي الأصعب صناعة، فقد تأخذ أحياناً يوماً كاملاً لصناعة قطعة واحدة منها.

تجار السعف

لكل صناعة موسمها، وكما ان لحرفة “ابو السّراير” موسمها الجيد الا وهو بداية الصيف، فإن هناك موسم ركود بالنسبة لهذه الحرفة، وايضاً هناك العديد من المعوقات التي تحاول طمر هذه الحرفة وجعلها في طي النسيان. يحدثنا في هذا الإطار حيدر حسين، صانع أسرّة لمدة( 25 عاما)، حيث قال:”ان موسم الشتاء هو الأسوأ ولكنه ليس الوحيد، فموسم حصاد وقص التمور هو مايجعل رزقنا معدوماً، بسبب قلة السعف، ولأن السعّاف يهتم بقص التمر عند الحصاد، فإنه يهمل تقطيع السعف، لضيق الوقت عنده، وبذلكً يكون سعرالسعف غير مناسب لعملنا فبعدما يبلغ في موسم اللقاح (60 الف دينار لكل 1000 جريدة) فإنه في موسم حصاد التمور يتعدى الـ(90 الف دينار لكل ألف جريدة)، وهذا مايجعل الربح غير جيد او شبه معدوم، وهناك ايضاً عدم دخول تجار السعف الى بعض المناطق التي ما تزال غير آمنة، كمنطقة الطارمية التي يكثر فيها النخيل، اما المعوقات من ناحية تكوين السعفة، فهناك السعف الرديء كسعف نخلة”التبرزل” “والبرحي” وايضا هناك نوع من المرض نقوم بمعالجته بعد ذلك بالغسل، يسمى “الدوباس” الذي يجعل السعفة ضعيفة، وتكون صناعة السرير من خلالها امراً مستحيلاً، ما يجعلنا نقوم بدمج قطعتين من “الجريد” بدل الواحدة لتقوية الحاجة المراد صناعتها.

عباس والأمم المتحدة!!

عباس حيدر حسين(20 عاما) اصغر الحرفيين في هذا المجال، يحدث “الشبكة” مفترشاً الارض بقوة شبابه ويقول: “لقد تعلمت الحرفة من عمّي منذ عشر سنوات، والذي كان يعمل في هذه الحرفة لأكثر من (50 عاماً) ماجعلني محترفا وذا دقة وسرعة في العمل، مضيفاً ان العديد من اقاربه قد ترك هذه الحرفة بسبب مواسم الكساد، ممتهنين عملا اخر، والبعض الآخر قد وافاه الأجل، فهناك اكثر من عشر محال قد اغلقت بعد ان كان في هذا الشارع اكثر من عشرين محلاً،” مضيفاً: “لقد اطلعني عمي على بعض الأسماء المهمة في هذه الحرفة، ومزاوليها الأوائل في مدينة بغداد، منهم رشيد ياسين في الشورجة، وابو حميد في مدينة الكاظمية المقدسة، وعبد سراير،وحجي عبود، وحجي رشيد، رحمهم الله، فقد كانوا يحترفون صناعة (العمارية) اي المظلة، وايضاً السرير لشخصين ولشخص واحد، والكرسي المدور والهزاز، وسرير الأطفال، والمكتبة، والتي انعدمت صناعتها حالياً لقلة الطلب عليها،” مضيفاً: ان منظمة الأمم المتحدة قد زارت محالهم، واحتسبت لهم رواتب مؤقتة، ومن أجل الحفاظ على هذه الحرفة، اقترحت الأمم المتحدة على بعضهم السفر الى خارج البلد، ليقوموا بالعمل معها بمرتب خيالي لمدة سنتين، يقوم فيها بتعليم 10 من الأجانب من الجنسيتين الهندية والبنغلاديشية،ولكنهم رفضوا العرض بسبب ارتباطاتهم بعوائلهم.

حمود والكرسي الهزاز

سألنا الحرفي حيدر حسين عن نوعية الناس التي ترغب في صناعتهم بشكل مستمر، وقد اجابنا “بأن اصحاب الكازينوهات والمقاهي لهم الحصة الأكبر في منتوجاتنا، وخصوصاً المقاهي ذات الطابع التراثي القديم، والمحافظات الجنوبية التي تكون فيها نسبة الملوحة في الارض عالية جداً، ما يجعل نوعية السعف رديئة وغير صالحة لصناعة الاثاث منها، وايضا الدول التي يخلو فيها النخيل، اما من الشخصيات المعروفة التي قامت بطلب صناعاتهم كممثلين ومطربين عراقيين وعرب، ورؤساء ومسؤولين فمنهم بول بريمر، وجلال طالباني، ونوري المالكي ومسعود بارزاني والعديد من الشخصيات السياسية والفنية،” ومن باب الطرفة حدثنا حسين بموقف لاحد ابناء عمومته من مزاولي الحرفة، وقال:” جاءنا في احد الايام وسيط يطلب صناعة كرسي هزاز لعبد حمود، وبعد اكمال صناعة الكرسي جلس عبد حمود لتجربته ما جعل الكرسي ينقلب الى الخلف وقد طرحه ارضاً، ما دفع الاخير الى ان يأمر بسجن صانع الكرسي بسبب عدم اتقانه العمل.”

خلف هذه الابتسامه لحسين احتبس كماً هائلاً من الحزن والحسرات، سببها أن هذه الحرفة قد قاربت على الاندثار وان السببين الوحيدين لانقراضها هما عدم التفات الحكومات المتعاقبة لها كموروث عراقي، وعدم الاهتمام بالنخيل وزراعته فضلا عن القطع والحرق الذي طالها في الآونة الاخيرة، بعد ان اخذ الإرهاب حصته في تدمير موروثنا الشعبي، وإرثنا الحضاري.