“الشبكة” تلتقي أحد أبناء عائلة الوردي العريقة المهندس ميثم عباس: تعلمت من علي الوردي كيف أخلص في علمي
ريا عاصي/
كانت العوائل البغدادية وما تزال ، دوماً وأبداً، تتفاخر بأبنائها من المبدعين والحرفيين والأسطوات، وبصفاتهم في الكرم والجود. وحين يكمل احد ابنائها دراسته العليا تجد حتى امه تناديه بلقبه العلمي: الدكتور، المهندس، وما الى ذلك من كنى بغدادية معروفة. واضحت هذه العوائل تتخذ من الحرفة والصنعة والشهادة لقباً للعائلة فصارت تكنّى ببيت فلان، حسب صنعة الابن او الأب.
وكانت الجملة البغدادية المشهورة تقال حين يتقدم احد الأبناء لخطبة إحداهن (من بيت منو وشنو شهادته)، فلم تكن العوائل تسأل عن ما يملك او ما يكنز بل عن الأخلاق والحسب، واخيرا المعرفة.
بيت الورد والكنية
احدى هذه العوائل البغدادية العريقة اتخذت تسميتها من مهنة مارسها الأجداد بصناعة ماء الورد، علماً انهم ينتمون لآل البيت الحسيني، لكن مهنتهم أضفت عليهم كنية جديدة وجميلة في ذات الوقت فصاروا بيت الورد.
ومن منا لا يعرف علي الوردي عالم الاجتماع الذي ينتمي لهذه الأسرة البغدادية العريقة، وليومنا هذا يفتخر ابناء هذه العائلة بمهنة الأجداد وبالدكتور علي الوردي.
التقت “الشبكة” أحد أبناء هذه العائلة العريقة واكتشفنا معه درباً آخر اتخذته هذه العائلة كحِرفة معروفة، لكن التطور في العلم والتقدم حال دون استمرارها بنفس النمط.
من هو ميثم الوردي؟
السيد ميثم عباس الوردي، مهندس مدني حصل على شهادته من الاتحاد السوفيتي، في حينها، من جامعة موسكو عام 1970
وعاد الى البلاد ليكمل مشواره العملي وليتزوج إحدى قريباته وليساهم في إعمار العراق.
يقول السيد ميثم: في سبعينات القرن المنصرم شهد العراق حركة عمرانية كبيرة ساعدت ابناء جيلي على المساهمة بالعمل في هذه المشاريع الضخمة، لكنني لم اتمكن من الاستمرار بالعمل الوظيفي في الحكومة حينها وذلك لمضايقات السلطة لعائلتي كون عائلتي كانت معروفة بمعارضتها لنظام البعث، وبانتماءات مختلفة، فمن بينهم اعضاء في الحزب الشيوعي او في حزب الدعوة.
لذا قررت الاستقالة وأسست شركة خاصة مع اثنين من اصدقائي المهندسين حيث عملنا في مجال البناء والانشاءات، كانت الدولة حينها لا تزال محافظة على العمل المؤسساتي ولم تكن الرشوة متفشية كحالها هذه الأيام، لذا قدمت المؤسسات مناقصات وقمنا بتقديم العروض ورست بعض المناقصات علينا وساهمت شركتنا حينها ببناء وحدات سكنية في معسكر الرشيد ومراكز حدودية للبلاد للمنتمين الى قوى الجيش العراقي ولوزارة الداخلية. كما قمنا بتنفيذ مشاريع خاصة بتصريف المياه الثقيلة في جانب الكرخ من محافظة بغداد لحساب أمانة عاصمة بغداد بالاضافة لمشاريع بناء اهليه بينها معامل ودور. في حينها ازدهرت الحركة العمرانية وازدهرت المكاتب الهندسية العراقية المحلية الاستشارية منها، ومنها العاملة، وصار العراق يعتبر واحداً من الدول الرائدة في مجال التنمية حتى حين تسلم صدام للسلطة وزجّه البلاد في الحروب ما جعل الحركة العمرانية في تراجع وافلست البلاد واغلقت اغلب المكاتب الهندسية بعد ان اقتادونا الى حرب طاحنة لعقد من الزمن.
أذكر حينها أننا حين صرفنا اعمالنا وقمنا ببيع آليات المكتب كانت ساحة بيع المعدات ماتزال خالية، الا القليل منها، وبعد اشهر قليلة صارت نفس الساحة مزدحمة بعدد وآليات هندسية ضخمة أجبر أصحابها على عرضها للبيع كونهم لم يتمكنوا من اكمال مشوار الإعمار وبدأ العد التنازلي لدمار البنى التحتية لهذا البلد.
اضطر العديد من زملائي للهجرة ومغادرة الوطن، لم أقوَ على فراق الأهل والأحبة وقررت البقاء كوني لم ابعد عن مدينتي التي ولدت فيها، الكاظمية، الا للسفر للحصول على شهادة عليا وعدت وبنيت لي مسكناً قريباً منها في العطيفية حيث توسعت الكاظمية بشكل كبير جدا في عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن المنصرم.
ذكريات في الكاظمية
الكاظمية هي ملاذي ووطني الأم حيث ذكرياتي في طفولتي مع والدي الذي كان مشهوراً كأحد صاغة بغداد المعروفين بالنزاهة والعدل، ولنزاهته اختارته العتبة الكاظميه لترميم وصقل قبتي الإمامين الكاظمين، وكانت هذه ميزتنا عن باقي عوائل الكاظمية الذين اشتهروا بالصياغه والتجارة حينها.
كانت العتبة تقوم بترميم القباب كل عقد ونصف وتوكل هذه المهمة لعائلتي وكنت من المحظوظين، اذ في احدى المرات اقتادني والدي للعمل معه وقد تطلب الأمر ترميم وصقل القباب في ستة اشهر وكنت احد الصقالين اذ تتكون القبّة من عدة قطع من النحاس المركّب والمطلي بالذهب، كانت مهمة والدي هي تعديل هذه القطع وصقلها ومن ثم تسيلمها للأسطة اسماعيل، مساعد ابي، ليذهبها ومن بعدها يدخلها للفرن (الكورة) الذي تمت اقامته على سور السطح ومن ثم يأتي دوري بصقل القطع بتأنٍ ودقة ثم يقوم ابي بتركيبها بمساعدة احد البنّائين.
كان ابي يفتخر بكونه الوحيد من صاغة الكاظمية ممن توكل لهم هذه المهمة، ولدقته في العمل قامت العتبة الحسينية في كربلاء باستدعائه لترميم وصقل قبة مقام الإمام الحسين عليه السلام في اربعينات القرن المنصرم .
حظيت بمتعة كبيرة اثناء هذه المدة اذ كنت اقوم بتكويك الساعة التي كانت فوق باب المراد يومياً مرة واحدة، والتي تم تغيير موقعها لاحقا فوق باب القبلة، الساعة مازالت موجودة لكنها للاسف لا تعمل.
كنت اثناء عملي على سور السطح اتأمل طويلا المدى وكانت تفرحني غابات النخيل التي تحيط المدينة الصغيرة وكنت اتطلع لأرى سطوح منازلنا احدها يرتكز على الآخر بحميمية وجمال يبهران العين ويشعرانك بالانسجام بين هذه البيوتات التي اتخذت من الكاظمية حياً لتسكنه تبركاً بالأئمة وقرباً لهذا الصحن الشريف الذي ميزها عن باقي أحياء بغداد.
كانت تقع بين البيوت الصغيرة والأزقة الضيقة باحة تعرف بالفضوة وهي ساحة مربعة تقام داخلها الأفراح والمآتم لأهل الحي وكانت ملتقانا ايام الصبا والمراهقة.
أزقّة وأحلام
هذه البيوتات احفظها عن ظهر قلب وكل اسبوع أمر في هذه الأزقة واستعيد صورها القديمة البهية.. لم تتبق من هذه البيوت الا اعداد تكاد تحتسب على اصابع اليد، كلما مررت يوم الجمعة يتراءى لي طيف علي الوردي الذي كان يحرص صباح كل جمعة على زيارة والدي في منزله وزيارة بقية الأقارب وهو يرتدي حذاء رياضيا يمكنه من السير لمسافة طويلة، واذكر انه في احدى المرات انتقده احد الأقارب قائلاً “مو انت دكتور ومعروف شنو لا بس بوتين مال رياضة مثل الصغار”، فأجابه بسرعة بديهيته المعروفة “احسن منك جاي بالنعال”، وجعل الكل يضحك ويقهقه على رده، ومن ثم واصل “عليك بعلمي الذي إعطيه إياك لا بملبسي”.
تعلمت من والدي النزاهة والصدق وتعلمت من الدكتور علي الوردي كيف أخلص في علمي وكيف أواكب مستجدات الحياة وكيف اساند الجيل الجديد في شغفه، لي ابنة مصممة وفنانه في عملها، لذلك اشجعها، ولي ابن يعمل في صحارى البلاد لاستخلاص النفط وابنة أخرى تدرس الطب وابن محامٍ وناشط مدني من اجل السلام، تشاركني رحلتي زوجتي، الوردية كذلك، ومدرسة الرياضيات المبدعة والخلّاقة في عملها، تحاول دوماً كسر النمطية واستحداث طرق جديدة لتعليم الأبناء.