الصناعات الحرفية العراقية بين أصالة السلف ومهارة الخلف
#خليك_بالبيت
عدسة وتحقيق : قاسم عوني /
كان الفخار أساس توثيق الحضارات العراقية، بل إنّ فخار (نينوى 5) كان دليل كريمر وهو يتتبّع هجرة السكان في العراق القديم. أريد القول إنّ الفخار اختراع عراقي جدّاً واستمر موجوداً عندنا بشكل أوانٍ واستخدامات منزلية.
اشتهرت مدننا العراقية كلها بصناعة الفخار، لكن فخار طوزخورماتو،180 كيلومتراً إلى الشمال الشرقي من بغداد, تميّز محليا وعربيا وإقليميا ونال جوائز دولية في معارض الحرف اليدوية خارج العراق. في هذه البلدة، سابقا كيفما أدرت وجهك كنت تجد في كل بيت وحارة قطعة فخار تزيّن أركان ذلك المكان وهي في الوقت نفسه جزءاً من تاريخ شخوص اشتهروا بصناعة الفخار تنتمي لعوائل اشتهرت بهذه الصنعة و توارثتها أبا عن جد.
(صنع في العراق) فرصة للدفاع عن صناعاتنا الحرفية والتراثية التي تهتم بها الدول وأصبحت واجهة سياحية وواردا ضمن الدخل القومي، بينما (فخار طوزخورماتو) يشكو الإهمال وغلبة الفخار المستورد الذي سعره وجودته أقل من المحلي. لم تتبقَ في البلدة سوى عائلة واحدة (تركمانية بهوية عراقية) تصرّ على الاستمرار، واستطاعت وعبر ما شهدناه من أعمال وتحف صاغتها أناملهم البعيدة عن الرعاية الحكومية إرساء تراث أجدادهم في أجزاء كثيرة من المدينة في محاولة خالصة لإبراز الوجه الثقافي والتراثي وتحت عناوين شتى من الصبر والإبداع.
معمل أسطة زين العابدين
في العام 1920 كانت قد رُصَّتْ أولى لبنات معمل أسطة زين العابدين كوزه جي رحمه الله في قضاء طوزخورماتو، حيث بدأت معها فنون الخزف والمهارات اليدوية وروعة توظيف الماء والطين للوصول إلى رؤية فنية قد استمد منها جدّهم الراحل كل مقومات النجاح آنذاك، والحديث هذا لنجله نوزاد الذي ما زال متمسّكا بمهنة الآباء والأجداد رغم الظروف الاستثنائية التي تواكب عمله, مؤكدا أنَّ العمل في مهنة الأجداد لم تنسه يومها عندما كان عاملا بسيطا لا يجيد سوى الأعمال المكمّلة لصناعة الفخاريات، إذ امتهن العمل والحرفة بصورة كبيرة في منتصف السبعينيات.
وأضاف أنَّ الطلب المتزايد على الفخاريات وبأنواعها المتعدّدة كالأباريق والجرار والأواني الفخارية والبستوكة والحِب بـ(كسر الحاء) كان العمل حينها يتمّ بشكل متواصل في صناعتها وكانت أغلبها يباع للمحافظات المجاورة وكذلك للمسافرين الذين يأتون للاستراحة في المطاعم المنتشرة على طول الحدود الإدارية لمدينة طوز خورماتو.
تربية تراثية
بينما أوضح نياز وهو أحد أسطوات محل فخاريات هياس الذي تمّ العمل فيه في العام 1967 أنّ هذه الصناعة وراثية، نياز الذي أخذ نصيباً وافراً من التربية التراثية لم تمنعه السنين الصعبة من تعلم أصولها والمحافظة عليها, وقد أضحت هذه الحرفة بحدّ ذاتها جزءا من رسالة مجتمعية لعكس وإبراز التراث الشعبي, مؤكداً أنّها في المقابل مهنة شاقة, إذ تلزم أفراد العائلة بالمشاركة في العمل, لأنَّ هناك أنواعاً من الفخاريات تمرّ بأكثر من أربع مراحل قبل أن تصبح جاهزة للبيع.
حسرة الأعوام
بينما الحسرة ارتسمت على محياه، تخللتها تنهدات لا إرادية أسكنت الكلمات التي أراد لها الانطلاق لبوح معاناته، قائلا: لقد شَهِدتْ هذه الحرفة في السنوات الماضية أياماً جميلة وازدهاراً لا مثيل لها واستطاعت أن تحافظ على جذوتها ورونقها قبل أن يطالها هذا التراجع المخيف والخطير الذي أجهز على رمزية هذا الموروث, حتى أنَّ الريع المالي حاليا ضئيل جدَّاً إذا قيس بالوقت والجهد اللذين يتطلبهما العمل.
ذاكرة الأيام
وبعد زيارة الموقع الذي يتم فيه صناعة الفخاريات أو ما يسمَّى بالكورة برفقة أسطة نوزاد، التي أعادت إلى ذاكرتنا الأيام الجميلة تمّ شرح كيفية صناعة الفخار وبأنواعه المختلفة حيث يقول: إن صناعة الفخار تتطلّب مهارة في تشكيله والدقة والذوق والعمل الدؤوب وهي مهنة حرفية قديمة وهذا ما مثّل بحدّ ذاته العراقة والأصالة لهذه الحرفة التي توارثناها جيلاً بعد آخر، نقوم برصّ ما تمّتْ صناعته من أوانٍ فخارية وغيرها بشكل منظم داخل الفرن الطيني كي تسهل عملية إخراجها مرّة أخرى بعد الصهر, بعدها يتمّ فتح الفوهات الخارجية الأربع في الزوايا العليا للفرن في مقابل غلق الفوهة الكبيرة أعلى الفرن وتصهر المنتوجات لمدة 36 ساعة متوالية، وبعد الانتهاء من هذه العملية تغلق الفوهات الخارجية الأربع في الزوايا في مقابل فتح الفوهة الكبيرة في متوسط الفرن لمدة 72 ساعة، حتى يبرد الفرن وبعدها تفتح جميع الفتحات وكذلك الباب السفلي, علما أنّ العمل يكون بمعدل ثمانية أشهر في السنة. أما الطين المستخدم في صناعة الفخار فيجب أن يكون خاصّا وأحمر اللون وأن يكون مشبَّعا بماء المطر.
إصرار شاب
أحمد كوزه جي شاب في مقتبل العمر ما زال يصرّ على المحافظة على هذا الإرث التاريخي والتراث الشعبي المميّز من خلال بيعه لأنواع عدّة من الفخاريات, وهو يمنّي النفس بأنْ تلتفت الدولة إلى هذا القطاع المهم وتسعى جادة إلى تنميته وتأهيل الأفران بما يتناسب والتطور الحديث, مبينا أنّ هذا الإجراء سيسهم في توفير أسواق تصريفية لهذا المنتوج وتتم بذلك المساعدة في حفظ هذا التراث الجميل من الاندثار.
مهنة في مقاعد الدراسة
لم تكتفِ هذه العائلة الفخارية بالعمل في الورش والكور الصيفية فحسب بل امتدّ نشاطها وتأثيرها الشعبي والتراثي إلى نقاط أبعد وهذا ما تجسَّد في مقاعد الدراسة من خلال المحاضرات الخاصّة بهذه الحرفة الجميلة, حيث يقول أسطة نياز: إنّ ابن عمّه سلمان إلياس قد كان حاضراً في معهد الفنون والصناعات الشعبية الواقعة آنذاك في منطقة الإسكان الغربي ببغداد وذلك في الفترة المحصورة بين عامي 1973 – 1989، حيث تفنّن في إيصال كل ما يتعلّق بهذه المهنة لأذهان الطلبة والطالبات حينها, في خطوة لم تكن طبيعية بالمرّة أن يكون هناك محاضر تركماني ومن أهالي طوزخورماتو وتحديدا من هذه العائلة الكوزهجية التي عُرِفتْ بحبّها لهذه المهنة الشعبية والتراثية الخالدة.
مسيرة استكملت
عقد ونيّف هي المدة التي قضاها التدريسي سلمان إلياس في أروقة المعهد حيث لم يكتب له بعدها الوصول إلى مبتغاه؛ فتوفي في حادث مؤسف فقدت هذه العائلة التراثية أفضل وأهم شخصياتها التي جمعت بين فن المهنة وجمالية طرق التدريس, حيث تسلّم التدريس من بعده شقيقه صابر إلياس الذي أجاد هو الآخر في إيصال المعلومة بالطريقة التي أحبّها الطلاب وعلى مدى أربعة عشر عاما، أي لغاية العام 2003 حيث أحيل على التقاعد تاركا خلفه إرثا شعبيا ومهنة التصقت تراثياتها بجدران المعهد عبر جهود متميّزة أثنى عليها كلّ من كان حاضرا هذا الصرح التربوي.
(ولمجلة الشبكة العراقية أمنيتها وهي أن تقوم الجهات الثقافية المختصة بالالتفات إلى هذه الصناعة الحرفية التراثية العراقية التي كاد الاستيراد يقضي عليها، إنّها في النفس الأخير قبل أن نفقدها نهائياً).
النسخة الألكترونية من العدد 362
“أون لآين -5-”