بيت الجبلاوي الملاذ الأخير للطراز الكلاسيكي في البناء

75

السماوة / يوسف المحسن/
بعد عامين من العمل المتواصل، فتح البيت التراثي في مدينة السماوة أبوابه لاحتضان الفعاليات الثقافية والفكرية. الافتتاح أعقب عمليات ترميم وبناء حافظت على الهوية التراثية والقيمة الفنية المعمارية للبيت، بمبادرة شخصية من مالكه، المعلم المتقاعد، الذي تحمّل كلف الترميم، تاركاً خلف ظهره المغريات المالية التي قدمت له، لكون الدار واقعة في الوسط التجاري للمدينة.
عن قصة البيت، يتحدث مالكه (الحاج عبد اللطيف الجبلاوي)، المولود في مدينة السماوة قائلاً: “هو بيت أسرتنا الكبير قبل أكثر من مئة عام، الذي يتوسط المدينة القديمة التي توسعت اليوم كما تلاحظون، أنا وإخوتي ولدنا في هذا البيت وكبرنا وغادرناه، كل منّا الى بيته الخاص، وبقي بيت العائلة متروكاً يواجه مصيره، وكنت أزوره من فترة الى أخرى، لأسترجع ذكريات طفولتنا التي تركت أجمل الأثر في روحي وقلبي، كل ركن فيه وكل قطعة خشب أو طابوق، تشكل جزءاً من الأيام السابقة، لقد تحوّل في رأسي الى كائن حي بفعل السنوات الطوال والأيام التي قضيتها فيه، لذلك قررت أن أحافظ عليه، لأنه شاخص حضاري وإنساني ومَعلَم اجتماعي يعكس مراحل من تقدم العمارة في هذه المدينة.”
أولى الخطوات
يتابع أبو مراد حديثه لـ (الشبكة)، وهو يحدق في بئر الماء التي جرى حفرها في البيت، وكانت مصدراً للماء العذب في العقود الماضية، قبل أن تصل محطات التحلية الى المدينة: “اينما التفت، وفي كل زاوية من المنزل ثمة ذكرى، لقد كان تحفة معمارية سبقت مثيلاتها، وكان محط إعجاب الشخصيات والأهالي الذين كانوا يزورون المدينة، التي كانت في وقتها صغيرة، لكن المدينة اليوم طغى عليها الطراز الحديث في البناء، وتحولت المنازل الى كتل اسمنتية جامدة لا حياة فيها.” يضيف الجبلاوي قائلاً: “الخطوة الأولى كانت الحفاظ عليه من الهدم والاندثار، ثم اشتريت حصص إخوتي وأخواتي واستعنت بطاقم متخصّص من البنائين والمعماريين لإعادته كما كان، باستخدام ذات المواد التي شُيّد منها، حتى أنني استعنت بالصور القديمة وما خزنته الذاكرة من تفاصيل زخرفيّة ونقوش وتوزيع للأثاث، وبالتأكيد فإن العملية كانت صعبة ومكلفة مالياً، وكان الأولى -بحسب آخرين- أن أحوله الى مركز تجاري، لكنني قطعت عهداً بأن أحافظ عليه وأبقيه شامخاً وشاهداً على حقبة زمنيّة كان كل شيء فيها ذا طعم مميز.”
منتدى ثقافي واجتماعي
ومع شروع الحكومة المحلية بإخلاء مبنى البيت الثقافي التابع الى وزارة الثقافة، وبانتظار الحصول على مقر جديد، صار البيت التراثي، وبمبادرة من الحاج أبي مراد مكاناً لأولى الفعاليات الثقافية، التي شهدت حضوراً اكتظت به باحة المنزل وزواياه، وكانت أمسية شعريّة جميلة جرى فيها أيضاً الاستماع الى عزف على آلة القانون، كما قدّمت وصلات موسيقية من التراث العراقي امتزجت مع الطبيعة التراثية للمكان، ليستمر البيت مفتوحاً أمام النشاطات والأماسي والمعارض الفنية والتشكيلية والأصبوحات الثقافية، بالتعاون مع الاتحادات المهتمة بحركة الثقافة والتراث، وهي الخطوة التي نالت إعجاب واستحسان المبدعين وأهالي مدينة السماوة.
يعود تاريخ بناء دار الجبلاوي في المحلة القديمة لمدينة السماوة الى مئة وعشرين عاماً. وقد بادر أبو مراد للاستعانة بشركة متخصصة بالاستشارات الهندسية والمعمارية لتنفيذ الأعمال، وقد حصلت الدار على جوائز دولية من مؤسسات علمية تعنى بفن العمارة والحفاظ عليه. ويتألف البيت من طابقين وعدد كبير من الغرف المسقوفة بالأخشاب، فيما تحتوي جدرانه على نقوش وزخارف وأعمال نحتية بالغة الدقة تعكس جوانب من مهارة البنائين السماويين الذين استلهموا أفكارهم من خيال واسع ورغبة واضحة في إظهار مميزات الفن المعماري.
هوية عمرانيّة
البناؤون السماويون من الجيل الأول حرصوا على خلق صلة انسجام بين فنون العمارة الإسلامية والغربية والشرقية، وخيالاتهم التصميمية انحازت الى استلهام الطبيعة المحيطة من زخارف نباتية وأقواس تنسجم مع التغيرات المناخية في المدينة ذات الحرارة العالية في فصل الصيف والبرودة النسبية في فصل الشتاء، وبدا ذلك جلياً من خلال تصميم الشبابيك العالية واستخدام الأخشاب وأعمال الحفر والمشبكات، وغالباً ما تزجج الشبابيك التي تطل على الإيوان الوسطي للبيت بالألوان الزاهية وتسوّر بالزخارف الجبسية، فيما صممت الشبابيك الخارجية والمرتفعة نسبياً عن الأرض أو في الطابق الثاني للتحكم بإدخال كمية كافية من الإضاءة، دون الإضرار أو التأثير على درجة الحرارة في داخل المنزل، وذلك من خلال استخدام المشبكات.
وتعد الشناشيل العراقية بشكل عام، والسماوية المستوحاة منها بشكل خاص، ركناً أساسياً في فن العمارة الشرقي، إذ إنها أثرت وتأثرت بالحراك المجتمعي والمعرفي والديني، فهي إطلالات على الدروب والجادات والشوارع من زوايا عدة، بما تمثله من قيم ومزايا جمالية وفوائد سبقت استخدام الأجهزة والوسائل الحديثة في التكييف والتهوية. وقد روعيت هذه الميزات في تصميم وتنفيذ الكثير من البيوت السماوية، ومن بينها بيت الحاج أبي مراد، حيث تضاف الحواجز والمسوّرات الخشبية المخرّمة او المفرّغة من الطابوق والآجر وبأشكال مربعة ومثلثة ودائرية تمنح البناء فخامة وعمقاً وتناسقاً عمرانياً، إضافات حولت البيت التراثي في السماوة الى ملاذ أخير للطراز الكلاسيكي في البناء.