فيلسوف “البتاوين” حقنه “صدام” بمادة مجهولة و”رشيد الخبل” يمارس الطب في الشوارع!

1٬007

وائل حمد/

تحوم حولهم قصص غامضة، غالبا بعضها جزء من الخيال المغلف بالمبالغة، أنه جيش يكبر ويتسيد الليل في الشوارع المخيفة، مجانين وضائعون وسياسيون معذبون بطرق مختلفة أشهرها “الحقنة “التي عالج بها نظام صدام معارضية، ومع تردي الواقع الصحي لاسيما في المستشفيات المتخصصة بالحالات النفسية والعصبية ارتفعت أعدادهم وتنوعت حكايتهم والقصص أكثر من أن تروى.

يبدون في أشكال مخيفة، وملابس رثة. أحدهم يشبه كيساً متنقلاً لمادة “الاستمبر” الصفراء التي يطلى بها الخشب، وآخر بلا ملابس ما يحرج الكثيرين عندما يقترب منهم خاصة النساء.

هم المجانين (خارج المصحات النفسية) يعيشون وينامون في شوارع بغداد ومدن آخرى.
أعداد هائلة

لاتعرف الحكومة أعدادهم بالتحديد، بسبب غياب البيانات حولهم، لكن منظمات انسانية معنية بهذا الشأن تشير الى ارتفاع أعدادهم.

ففي المنطقة المحيطة بالباب الشرقي، يوجه أبو محمد، صاحب “كافتريا” صغيرة قرب السعدون، عدداً من الركلات لاحد المشردين الذي ينام أمام محله، ويبدو لونه أصفر!.

ما يعكر مزاج (ابو محمد) صباح كل يوم، إصرار (حميدي) الرجل المتشرد على النوم في هذا المكان بالتحديد، بينما الرصيف الذي يقع فيه مطعمه الصغير، يمتد لمسافة طويلة.

يقول أبو محمد لـ (مجلة الشبكة): “اضطر لأن اصرخ بـ حميدي كل يوم لكي يتحرك بعيدا عن مكانه، وأحيانا اضربه بقدمي اذا طال جلوسه من النوم”.

حين تحاول الحديث مع “حميدي”، تجبرك رائحته الكريهة على إعادة التفكير في مدى نجاح هذه المحاولة، ولكن البحث عن أسباب لجوء هذا الشخص إلى الشارع ومبيته يضطرك لذلك.

من هو “حميدي”؟!

حميدي، لا يعرف لون بشرته الحقيقية (سمراء أم صفراء)؟ ربما اكتسب هذا اللون من خلال العيش بين الأزبال وبقايا الطعام التي يتغذى عليها، لكن ماسر اللون الأصفر؟

هذا مالم نستطع أن نعرفه، حيث يقول أغلب أصحاب المحال التجارية التي يتسكع “حميدي” بقربها، بأنه يختفي لساعات ثم يعود “أكثر اصفرارا”! لكن أحدهم يعتقد بأن اللون جاء من مادة شبيهة بـ”الاستمبر” المستخدم في صبغ الخشب.
الغريب في “حميدي” ليس لونه المموه فقط، بل القاءه للقصائد بشكل عذب، فهو ينشد أبياتا من شعر الرصافي والسياب والجواهري وأغاني عبد الحليم، ويعلق ساخرا على بعض كلمات الأغاني العراقية الجديدة، ثم تفلت الأمور من زمامها ويبدأ بسرد كلام غير مترابط وغير مفهوم ينطوي على الكثير من الشتائم لشخصيات من أزلام النظام السابق.

ويؤكد صاحب “الكافتريا” نسمع أحيانا من أشخاص يدعون بأنهم يعرفونه بأنه كان مدرساً للغة العربية في إحدى المحافظات الجنوبية، وسلاطة لسانه جلبت عليه الويلات”، حيث يعتقد أبو محمد وحسب كلام أشخاص لهم معرفة بالمتشرد “أنه كان ينتقد النظام السابق ويتحدث بين الأساتذة والطلاب من دون تردد، والنتيجة كانت معروفة”.

تبرع أحد المدرسين المولعين بالتزلف إلى البعثيين بكتابة تقرير مفصل عن انتقادات “حميدي” وكيف كان يشتم ويسب النظام الدكتاتوري وكيف تجرأ على شتم وسب “القائد”. حينها، وكما هو معروف جاءت عناصر الأمن الصدامية واقتادوه إلى أحد معتقلاتهم ليخرج بعد أكثر من سنتين على هذه الصورة!

الكل يتفق على أن حميدي، كان مدرسا للغة العربية ورجال الأمن الصداميون افقدوه عقله، بوسائل عدة، اختلفوا عليها، فالبعض يقول إنهم حقنوه بأدوية خاصة، وهناك من يشير إلى وسائل تعذيب كان قد سمع عنها تجعل الإنسان يفقد عقله.

على “نصف متر”!

الشخص الثاني الذي تعرفنا عليه في جولة البحث عن المتشردين، هو “رشيد الخبل” كما يدعونه أصحاب السوق في منطقة بغداد الجديدة، قرب مجمع الأطباء.
يبدو أنه تأثر بمكان وجوده الدائم ونومه أيضا، حيث يرتدي على الدوام ملابس طبية، الصدرية البيضاء، ويحمل السماعة، وأحيانا يضع المحرار في فمه، أو يحاول أن يضعه في أفواه الآخرين.

البعض من أصحاب المحال في السوق يسمحون له بان يمارس دور الطبيب، ويزرقهم بإبر مزيفة، عبارة عن أقلام أو شيء شبيه بالحقنة الطبية، وآخرون يسخرون منه ولا يدعونه يقترب منهم لأنه مريض أو لأنه قذر.
الحديث عن قصة “رشيد الخبل” كانت تضم أكثر من رواية شأنها شأن كل حكايات المشردين، حيث يشير فلاح صاحب محل المفروشات، إلى أن المتشرد “كان طبيبا لكنه أصيب بصدمة نفسية جعلته يفقد عقله بعد أن مات أحد مرضاه.”

بالمقابل يؤكد أبو سجاد صاحب بسطية الأقراص الليزرية أنه “كان يريد الدخول الى كلية الطب ولم يستطع فأصيب بصدمة عصبية وهرب من البيت الذي كان يسكن فيه مع أهله في منطقة الفضل ولجأ إلى الشارع كـ”ملاذ أخير”.

“رشيد” يتخذ من “كارتونة” يضعها على الأرض سريرا له، ويعطف أصحاب المحال على حاله ويعطونه طعاما وملابس، لكننا لم نستطع أن نتحدث معه لأنه دائماً يعيش في عالمه الخاص، ولايكلم أحدا.

أطباء النفس في العراق بدورهم يقولون: إن الحرب والعنف وازدياد عدد القتلى اثرت بشكل كبير على الصحة النفسية بأكملها، وأن عددا من الاضطرابات العقلية آخذة في الارتفاع في جميع أنحاء البلاد. مؤكدين أن الطلب على العلاج النفسي سوف يرتفع بسبب ما حدث على مدى السنوات الماضية.

صور أخرى

بالتأكيد ليس كل المشردين هم من المجانين أو المرضى النفسيين، فقد وجد عباس لفتة في نهاية الخمسينات من العمر نفسه في الشارع لأسباب كثيرة، فقرر ترك أهله منذ سنوات طويلة وانقطعت علاقته مع الأقارب والأصدقاء حين غادرهم قبل ثلاثين عاما، راكضاً وراء سراب وحلم العمل في بغداد، لكنه فشل في تحقيق أهدافه وتوالت الاحباطات حتى أصبح من سكان الشارع.

لفتة يذكر في حديثه لـ (مجلة الشبكة) أنه ينحدر من عائلة قروية من محافظة السماوة، وكان وحيدا بين 6 بنات، لعائلة فقيرة.
كانت عائلة لفتة تعيش على صدقات الجيران، وبعد ضيق الحال ووفاة الأم والأب ترك قريته وأخواته، وغادر إلى بغداد حالما في العمل او إيجاد فرصة للحياة.

لكن الأمر لم يستقم، فتنقل بين العمل بمجال البناء وحمل القاصات وأكياس الطحين حتى انحنى ظهره، وفرض بلوغه العقد السادس من العمر حمل صندوق السكائر والتجوال به بين السيارات وأصحاب المحال، ولم يبق له غير الشارع ليكون مسكنه على أحد الأرصفة في منطقة البتاوين.

لفته لم يسمع منذ سنوات عن خواته. ويضيف قائلا: “اخجل من العودة، بعد كل تلك السنوات لايمكن أن أرجع”.

فيما كانت هناك قصص أخرى أبطالها شباب تركوا عوائلهم للعمل في بغداد لكن ضعف المردودات المالية جعلتهم يضطرون إلى العيش في داخل بنايات لم يكتمل بناؤها بعد.

ضيق سبل العيش

يقول كاظم وعد 30 عاما “تركت مدينة الديوانية، منذ ثلاث سنوات، بعد أن ضاقت بي سبل العيش، وكنت قد تزوجت بعد إصرار أمي على ذلك”. ويعيش كاظم مع عائلته الكبيرة في بيت لا يمكن أن يخفى به سر لصغره وكثرة أعداد الساكنين به. وبعد فقدان الأمل في إيجاد عمل، توجه إلى أصدقائه في بغداد، للعمل في البناء، والأجر اليومي المنخفض الذي يحصل عليه، ما اجبره على السكن في هيكل البناية مع عدد من العمال الذين يبذلون الجهد لإكمال الجزء الأكبر منها كي تقيهم من برد شتاء تأخر قليلا، ربما لحسن حظهم.

المكان الذي يعيشون به يفتقد مقومات الحياة، فهم يضعون (فراشاً) بسيطاً بين السمنت والحصى ويأكلون فوق احد أكياس الرمل، أما الحمّام والاغتسال، فقد اختاروا أحد الأركان لذلك الغرض. البناية تقع في منطقة بعيدة عن وسط بغداد، في الحسينية، وسجاد يتنقل من منزل إلى آخر ومن بناية الى غيرها ويرسل معظم الأجر إلى زوجته وأمه في الديوانية.

مدمنو “الثنر والصمغ”

وبالعودة إلى المنطقة المحيطة بالباب الشرقي حيث لا يمكنك أن تتجاهل النوع الآخر والأخطر من المتشردين وهم الشريحة الأكثر صعوبة عند الحديث عنها. إنهم الأطفال، حيث يروي بائع المناديل الورقية ذو الـ(12) عاما، كيف نشأ في منطقة الكمالية وتوفي والده اثر مرض عضال، وخرج إلى الحياة من دون أب، واضطرت والدته للعمل في المنازل لكي توفر لقمة العيش إلى أخواته الخمس.

محمد، يجري بين السيارات، ويرمي المناديل في أحضان السائقين، وفي أحيان كثيرة يعيدها إليه السائقون من جديد عبر النافذة، ويشير إلى انه ترك أهله ولا يذهب إلى البيت، فهو يعيش في الشارع مع مجموعة أخرى من المتشردين، لأسباب يصفها هو بالتسلية مع أصدقائه.

أغلب هؤلاء الأطفال المشردين مدمنون على مواد الثنر والصمغ التي يستنشقونها، وتجعلهم يفقدون القدرة على الحراك وإدراك ما يحدث من حولهم.

هذه المجموعة من المشردين تنتشر بالقرب من محال صناعة الاثاث، التي تستخدم تلك المواد (الثنر والصمغ) في عملها. وعادة ماتكون هذه المواد رخيصة، وأقل كلفة من حبوب الهلوسة، التي ترفض الكثير من الصيدليات بيعها من دون وصفة طبية. بدوره يقول عادل حسن، ناشط في مجال حقوق الانسان، أن “مؤسسات الدولة المعنية باحصاء عدد المشردين في العراق، لاتملك أرقاما دقيقة حول هذا الأمر”.

حسن الذي يعمل متطوعا مع عدد من الجمعيات المهتمة بأوضاع المشردين، يقول لـ”مجلة الشبكة” بأن تقديرات بعض منظمات المجتمع المدني حول عدد المشردين في العراق يصل الى “نصف مليون شخص، أغلبهم من الأطفال”.

ويحذر النشاط المدني وعدد من المهتمين بهذا الحقل من خطورة بقاء هؤلاء المتشردين، خاصة الأطفال، من دون رقابة حكومية، لان من السهل تجنيدهم من قبل الجماعات الإرهابية.

وكانت تقارير استخباراتية، كشفت في حوادث أمنية سابقة، نفذها “انتحاريون” في بغداد وعدد من مناطق العراق، استخدام بعض المشردين والمجانين في تلك العمليات، حيث وجد بعضهم “مقيدين” بسلاسل الى مقود العجلة المففخة.