مناهج اللغة العربية في المدارس لغة أحفورية .. وهوّة واسعة بين مرحلتين

207

إياد السعيد – تصوير: علي الغرباوي /

يُعاب على المسؤولين الرسميين، والأكاديميين المتخصصين، ومذيعي الأخبار، ومقدمي البرامج في وسائل الإعلام، ضعف لغتهم ووقوعهم في أخطاء مخجلة أحياناً، سواء من حيث القواعد أو الصرف، أو حتى تشكيل أواخر الكلمات بأبسط صيغها.
وهم كما نعلم ينبغي أن يكونوا من أرفع مستويات المتحدثين باللغة الأم، فما بالك بالموظف والطالب والمهندس، وكل هؤلاء يستمدون قوة لغتهم أو ضعفها من نسغ المنهج والمدرس في مراحلهم الدراسية، ولا أعتقد أن ثمة من يخالفنا الرأي ليقول إن أبناء هذا الجيل أفضل من سابقيهم، أو على الأقل يقارن بهم في فهم اللغة العربية واستخدامها، رسمياً وأكاديمياً ومهنياً.
قبل أن نقرّ بنجاح أو فشل مناهج تدريس اللغة العربية، إليكم هذا المثال من الواقع : س. ع. طالب اجتاز المرحلة المتوسطة في العام الدراسي الفائت، اختبرتُه بحضور زميلي مدرس اللغة العربية في أبسط قواعد وأصول اللغة، فكان لا يفرق بين الرفع والنصب، ولا يميز الفتحة من الكسرة في الكتابة ولا الفاعل من المفعول.
(زينب كريم) تشكو من ضعف مستوى ابنها تلميذ الابتدائية: “بصراحة ليست لي ثقة بما يقدم له في المدرسة من دروس اللغة العربية، لذا أعتمد حالياً في تعليمه بنسبة 80% على قنوات موجهة للطفل تتحدث اللغة الفصحى السليمة والبسيطة، برغم ما يعرض خلالها من برامج قد تطبّع الطفل على نمط آخر غير مقبول، من جانبي على الأقل، لكن ما باليد حيلة.” قد نوافقها في ذلك، لأن الهوّة كبيرة وواسعة بين مناهج المرحلتين فمناهج الثانوية تقفز مباشرة إلى مفردات صعبة وجمل معقدة من المعلقات والشعر الجاهلي والعباسي، واختيارات صعبة من آيات القرآن الكريم يتخبط فيها ذهن الطالب وتوجب عليه الاستعانة بعلم الدلالة مجبراً لكي يفهم إعرابها، فالمناهج تكاد تكون أدبية معقدة تميل إلى لغة جامدة (أحفورية) ينفر منها الطالب والأستاذ.
ماذهبنا إليه يؤكده (سعدي غزالة)، إعلامي مختص بالشؤون التربوية بقوله: “المشكلة في اللغة العربية هي أن الطالب لا يمارسها في حياته اليومية، إذ أنه لا يستخدم مفردات عربية فصحى، لذلك أفاجأ من مستوى أولادي في المرحلة المتوسطة، فالطالب في الثالث المتوسط لا يفرق بين الاسم والفعل وبين الجملة الإسمية والفعلية، غالبية الطلبة لا يحبون اللغة العربية، إضافة إلى الأساليب التقليدية التي يتبعها المدرس في إيصال المادة، وعدم اعتماد أساليب تفاعلية في شرح القواعد، والحجة هي أنه لا يوجد زمن كاف، وأن أعداد الطلبة كبيرة في الصف الواحد، لذا فإن همّ الطالب هو الحفظ لا الفهم، كما أن هناك أبياتاً شعرية تحوي مفردات صعبة لم تعد مستخدمة في يومنا هذا.”
(شيماء الزبيدي)، مدرسة اللغة العربية في مدرسة بغداد للفنون، تخالفه الرأي فتقول: “منهاج قواعد اللغة للثالث المتوسط صعب جداً ويحوي مواضيع مثل الميزان الصرفي وأبواب الأفعال الثلاثية وغيرها، وهذه فوق مستوى ذهنية الطالب في هذه المرحلة، أما الأدب فقصائده لطيفة ومقبولة وسهلة الحفظ.”
أما (د. محمد الواضح)، أستاذ اللغة العربية، فيلخص وجهة نظره بما يأتي: “ينبغي إعادة النظر في طرائق التعليم الأساسي الابتدائي والثانوي والإعدادي، بما يعزز حضور اللغة العربية كلغةَ علمٍ وتعبيرٍ ومحادثةٍ عن طريق اهتمام المعلمين والمدرسين بتطوير المهارات اللغوية الأساسية، كـمهارات السماع والحفظ والإلقاء وفن الكلام الهادف والمنضبط لغوياً، فاللغة مجموعة مهارات أدائية لابدَّ من إتقانها وهضمها قبل أن تكون مجرد قواعد وضوابط إملائية ونحوية، وهذه التنمية اللغوية تحتاج إلى إعادة النظر بالمناهج اللغوية على صعيد الدراسة الابتدائية والمتوسطة والإعدادية، والتركيز على المناهج التأسيسية الصانعة للثقافة اللغوية بنحو متوازن قياساً بالمناهج القواعدية أو التنظيرية. وقد آن الأوان للدراسات الجامعية الأكاديمية أن تغادر المناهج اللغوية ذات الأساليب التراثية القديمة كشرح ابن عقيل وشروح الألفية، واعتماد مناهج تركز على الجانب الوظيفي للغة الذي يجعل المتعلمين قادرين على تأليف أو بناء الجمل بنحو سليم ومعرفة أصول العربية بلا خلافات واجتهادات اللغويين، والاهتمام الجامعي بصناعة معلمين او مدرسين يجمعون بين طرائق التدريس الحديثة وإتقان المعارف اللغوية.”
يبدو أن الأمر لا يثير اهتمام المسؤولين عن مناهج اللغة العربية، وتحديداً في وزارة التربية، فبعد جهد كبير مع الناطق الإعلامي ومدير الإعلام فيها، لم يقتنع أحد بالإدلاء ولو بمعلومة عن مدى التصاقهم وإعجابهم بهذه المناهج التي تحوي لغة متحجرة، يقلّبها المدرس والطالب يميناً ويساراً، لعلّ دهاليز الدماغ تهضمها، لكنها تبقى عصية جداً وصامدة كصمود المسؤول في امتناعه عن المناقشة. بصراحة لا يهم رأي المسؤول هنا بقدر أهمية الاطلاع على آراء المجتمع الملامس لهذه الظاهرة، لكي يبني ستراتيجيته التربوية والتعليمية على حلول تعمل على تطوير معرفة الطالب مستقبلاً لتكون لغته أداة بناء وليست حجارة يتعثر بها وينفر منها.
ختاماً رسالة إلى مسؤولي المناهج العربية: “ما فائدة حفظ قصيدة تعود الى قرون، وليست لديّ قدرة على تكوين جملة صحيحة؟ فاللغة بنحوها هي قوانين لتصحيح اللسان وليست حفظاً متجمداً، وهي سليقة تخلقها قواعد اللغة في الممارسة الصحيحة لفهم وتحليل ما يُكتب. ولتبرئة ذمتي فأنا من عشاق اللغة الفصحى ونحوها الجميل، لكني لا أسمح لنفسي أن أجبر جيلاً بعدي أن يعشقها مثلي.”