من نهب الآثار إلى استردادها.. الرواية الكاملة لحلم كلكامش

439

إيفان الخفاجي /

تخثر الزمن في العيون، وأفردت الصدمة جناحيها على البشرية وهي تشاهد تبديد تاريخها الذي وثقه الطين والصلصال والنحاس. ثمة لحظات دبقة تواطأ فيها بسطار المارينز مع حقائب اللصوص ومعاول المتربصين بشواخص التاريخ. تلك هي لحظات استباحة المتحف الوطني التي أعقبت احتلال العراق من قبل القوات الأميركية في نيسان عام 2003.
وبعد اثني عشر عاماً، يستلّ الظلام معوله مجدداً، لكنه هذه المرة يرتدي جلباب تنظيم داعش، الذي دمّر ما دمّر من نفائس متحفي الموصل والنمرود، ونهب ما نهب منها.
ومرّة أخرى، “كان يُمكن ملاحظة الدموع المحبوسة في عيون العراقيين بعد نشر داعش للفيديو الذي يمتدّ لدقائق عدّة حين يقوم عناصره بتحطيم الآثار العراقية التي تعود إلى آلاف من السنوات. كان يمكن قراءة العيون وهي تتحدّث عن ماضيها وحاضرها المسلوب، وكان يمكن أيضاً تلمّس أطلس الخراب الذي امتد على الخارطة العراقية”، كما يقول الكاتب عمر الجفّال.
في المحصّلة، فإن الفرق في مشاهد الدمار بين تلك اللحظات الأميركية وهذه اللحظات الداعشية في تدمير الآثار ونهبها، هو طريقة الدعاية فحسب. في الأولى، كانت سرفات الدبابات تشاطر ابتسامات جنود المارينز وهم يتابعون تبديد الإرث الإنساني عبر تدمير ونهب المتحف العراقي، وفي الثانية، كانت المعاول تسابق اللحى القذرة وهي تنهال بغلّ على أجساد ملوك الحضارة الآشورية وخيول عرباتهم المشرعة للشمس وهي تجوب الكون بصهيل المعرفة الذي أسهم في صناعة حضارات الإنسان في العصور التالية.
عصابات النبش في الصحراء
يتعرض أكثر من 50 ألف موقع أثري منتشر في عموم مناطق البلاد، بحسب آخر مسح أجرته وزارة الثقافة، للسرقة والنهب من خلال عمليات النبش العشوائي من قبل مافيات وعصابات التهريب والمتاجرين بالآثار، وبيعها في المزادات العلنية والخفية في عدد من دول الجوار والدول الأجنبية.
استغلت تلك المافيات والعصابات الانفلات الأمني الذي عاشه العراق منذ عام 2003 وهرّبت آلاف القطع الأثرية. ويقدر مختصون أن الأرباح التي تحققها مافيات محلية وأجنبية بتهريب آثار العراق وبيعها في بلدان عدة، تصل إلى مليارات الدولارات.
تتركز عمليات النبش في المواقع التائهة في الصحراء: في السماوة والناصرية تحديداً، حيث مواقع لا تحصى تفتقر لحراسة كافية، بسبب قلة عديد الحراس وضعف أجورهم التي لا تغريهم بمجابهة خطر مداهمة عصابات النبش والتهريب المسلحة.
وبحسب المختصين، فإن شبكات دولية تنتمي إلى بلدان إقليمية تقوم بالمتاجرة بالآثار العراقية عبر بيعها الى تجار آثار غربيين ومزادات مهمة في العالم، لكنها لا تعمل مباشرة داخل العراق وإنما تعتمد على عصابات محلية تقوم بتهريب تلك الآثار الى خارج البلد لتصل إليها.
ومجدداً، ساعدت فترة الانفلات الأمني التي مرّ بها العراق عام 2014، تنظيم داعش على جعل تهريب الآثار شريان تمويله الثاني بعد النفط لدعم عملياته العسكرية ضد القوات الأمنية، وسط عجز تام من الحكومات المتعاقبة في اتخاذ أي إجراء صارم لمنع هذه الظاهرة أو التقليل منها. وعلى الرغم من أن قانون الآثار العراقي رقم 55 لسنة 2002 حدد في المادة 38، العقوبة بالسجن 10 سنوات والتعويض بضعفي القيمة المقدرة للآثار على كل من لديه قطعة أثرية ولم يسلمها للدولة خلال 30 يوماً، وكذلك المادة (40) التي حددت عقوبة السجن لمدة لا تقل عن 5 سنوات ولا تزيد على 15 سنة لكل من سرق أثراً أو تراثاً، والمادة 39 التي حددت عقوبة حيازة المخطوطات والمسكوكات وغيرها من المواد العقابية، على الرغم من الصرامة في هذا القانون، إلا أن يد إنفاذه تبدو متراخية لجهة التعامل مع تلك العصابات والمافيات نتيجة ارتباطها بشخصيات وأحزاب متنفذة توفر لها الحماية المطلوبة مقابل عمولات تصل الى عشرات الملايين من الدولارات، إذ أن سرقة الآثار باتت جزءاً من منظومة الفساد في البلد.
كلكامش يستعيد حلمه
نهاية تموز من العام الماضي، عقد وزير الثقافة والسياحة والآثار حسن ناظم مؤتمراً صحفياً في مطار بغداد الدولي، أعلن خلاله عن “أكبر عملية استرداد لآثار العراق”. الآثار المستردة كانت برفقة رئيس مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي على متن الطائرة التي أقلته من الولايات المتحدة الأميركية بعد انتهاء زيارته الرسمية الى واشنطن، وأعلن الوزير أن عدد القطع المستردة هو 17 ألف قطعة أثرية، بينها قطعة يعود تاريخها إلى 4 آلاف عام، جرى تهريبها إلى خارج البلاد في خضم الفوضى الأمنية التي رافقت احتلال الولايات المتحدة للعراق عام 2003.
ومن بين القطع المفقودة التي وافقت الولايات المتحدة على إعادتها قطعة حلم كلكامش، وهي جزء من الملحمة السومرية التي تُعد أحد أقدم الأعمال الأدبية للبشرية، وهي لوح أثري مصنوع من الطين مدوّن عليه باللغة المسمارية.
ويقدر خبراء الآثار أن العراق فقد أكثر من 15 ألف قطعة أثرية من المتحف العراقي وحده، تعود إلى حضارات مختلفة، بدءاً من السومرية قبل 4 آلاف عام، ومروراً بالبابلية والآشورية وصولاً إلى الحضارة الإسلامية.
ومع استمرار نزيف الآثار العراقية المهربة إلى خارج البلاد، تغيب الأرقام الرسمية الراصدة للآثار المفقودة أو المهربة في ظل حالة الفوضى الأمنية واستمرار العصابات في عمليات النبش والتنقيب غير المشروع عن الآثار، التي تتطلب تكثيف تواجد القوات الأمنية قرب المناطق الأثرية للحد من عمليات التنقيب غير المشروع، كما أن استعادة كامل الآثار المنهوبة والمهربة يستوجب تنسيقاً على أعلى المستويات بين وزارتي الثقافة والخارجية من جانب، ومنظمة اليونسكو والشرطة الدولية (الإنتربول) من جانب آخر. علماً بأن القانون الدولي يلزم الدول بإعادة الآثار المسروقة إلى بلدانها الأصلية خلال مدة أقصاها 3 سنوات من تاريخ رفع دعوى قضائية بهذا الشأن.
هبط المنقبون في بابل
يقدر علماء الآثار أن المواقع الأثرية المطمورة في العراق تفوق 12000 موقع تعود لحقب تاريخية مختلفة. ومع الأمن النسبي الذي تحقق في الآونة الأخيرة في العراق، عاد اهتمام فرق التنقيب العالمية التي أوقفت أنشطتها منذ زمن طويل بسبب الحروب المتعاقبة في البلد.
فقد باشرت بعثة فريق آثار أميركي من جامعة شيكاغو العمل عام 2019 في موقع مدينة نيبور التي يعود تاريخها الى 2500 سنة قبل الميلاد في محافظة الديوانية، وأجرت البعثة مسحاً شاملاً للمدينة الأثرية استعداداً لتنفيذ أعمال تنقيب واستكشاف واسعة في الموقع .
وفي موقع تل البقرات، الذي يعود للعهد البابلي في قضاء النعمانية بمحافظة واسط، بدأ فريق إيطالي تابع لمركز تورينو الآثاري بأعمال التنقيب، حيث استُخرِج عدد من القطع الأثرية فضلاً عن الكشف عن تراكيب بنائية لها وظائف مدنية ودينية. وقبل ذلك، كان فريق آثاري إيطالي -عراقي مشترك قد عثر على عشرة نقوش صخرية في محافظة دهوك تعود للعصر الآشوري. أما بعثة التنقيب الآثاري الفرنسية فقد استأنفت مهامها الاستكشافية في موقع لارسا عاصمة مملكة لارسا بعد غياب ثلاثين عاماً، وتعتبر مملكة لارسا أول دولة يتم تأسيسها مع بداية الألفية الثانية لما قبل الميلاد. وكانت البعثة قد كشفت النقاب سابقاً عن شبكة قنوات مائية ضخمة وجسر ووحدات سكنية مع معبد كبير وكذلك ألواح طينية يعود تاريخها إلى العصر البابلي القديم.
وفي العام الماضي اكتشف فريق آثار ألماني موقعاً يعود إلى عهد الإمبراطورية الميتانية يبلغ عمره أكثر من 3400 سنة.
لارسا.. هنا بيت الشمس
تنطوي مدينة لارسا، التي تواصل البعثة الفرنسية استكشافاتها فيها، على أهمية استثنائية، ففيها يقع معبد بابار، أو بيت الشمس، وهو معبد الإله شمش، كما يضم موقع لارسا زقورة كبيرة يمكن رؤيتها عن بعد، بالإضافة الى هيكل عظمي عمره 6500 سنة، وتمثال برونزي للملك أورنمو، وإحدى أقدم العجلات في حضارة وادي الرافدين، ومجموعة مهمة من الأختام الأسطوانية المسمارية، وتماثيل لملوك وشخصيات سومرية، إضافة الى قصور بمساحات واسعة وعدد كبير من الألواح الطينية المسمارية.
بدأت عمليات التنقيب في المدينة مطلع ثلاثينيات القرن المنصرم، ثم تبعتها عمليات تنقيب أخرى في حقبة السبعينيات، غير أن مطلع التسعينيات وما رافقها من حروب وقرار الحصار الدولي على العراق أوقف عمليات التنقيب في المدينة المهمة. وبعد غياب ثلاثين عاما عادت البعثة الفرنسية لاكتشافات أخرى في المدينة التاريخية برئاسة عالم الآثار (ريجز فالي) من المركز الوطني الفرنسي للأبحاث العلمية.
لا يتوقف هدير التاريخ العراقي عند هذه الاكتشافات، فثمة بصمات للحضارات المتعاقبة التي شهدتها أرض العراق في كل حجر، وعلى شواطئ وأعماق الفراتين، ثمة وثيقة أولى للإنسان الذي عرك الطبيعة وفك طلاسمها وفتح أبوابها المغلقة، لتبدأ من عنده ومن على أرضه رحلة الاكتشافات و.. الحضارات.