إبراهيم أصلان قاصّ الصورِ السّردية

1٬164

سامر أنور الشمالي  /

يتميز الأديب المصري المعروف (إبراهيم أصلان 1935-2012) بأسلوبه المعتمد على نسج صور بصرية من خيوط السرد، وقد تدهش القارئ بدقتها في التركيز على المهمل والمنسيّ في زحمة الحياة وصخبها.

ولا بد لمن يكتبون عن تفاصيل المعيشة اليومية من الاهتمام بتلك التفاصيل ومنحها العناية الكافية في حال الرغبة في تقديم صور حيّة عن الحياة بكل ما فيها من أشياء وأحاسيس.

لكن تلك التفاصيل المشغول عليها في سياق السرد لا تعبر بالضرورة عن قصة فيها حدث مركزي تخدمه باقي عناصر السرد، فالقص الكلاسيكي منفي في سرد هذا القاص المختلف والمخالف عن أقرانه من كتّاب القصة. وهنا نتساءل مع (إيكو) صاحب السؤال الماكر المربك: (إذا كانت هناك نصوص تمتلك حكايات ولا تمتلك حبكة، فهل من الممكن أن تكون هناك نصوص لها فقط حبكة دون أن تكون هناك حكاية؟).
الإجابة ستكون في هذه القصص التي تفتقر إلى الحكاية بالمعنى التقليدي، ولتكون الحبكة الافتراضية هي تجميع مشاهد وفق نسق سردي خاص.

***
بعد قراءة قصص (بحيرة المساء) نكتشف أنه غير معني بالبحث عن الأفكار، بل بالزاوية التي يلتقط منها صوره السردية، مفترضاً أن المعاني تتوالد من تلقاء ذاتها نتيجة تعاقب الصور ضمن سياق القص، لهذا لا يَعد الموضوع من الركائز الأساسية، أو يغيبه دون تبيان ماهيته في بعض قصصه.
وبالنتيجة، لا تحمل الشخصيات أفكاراً خاصة لتستحق القيام بدور البطولة، ومؤهلها الوحيد حضورها في مجال عدسة الكاتب الذي نجح في التقاط صور مباشرة في لحظة مفعمة بالحياة من الشارع أو المقهى أو أحد المنازل. وربما كان البطل مجرد مراقب لا يشارك في الحدث، ويكتفي بدور الراوي، وبرصد الأحداث من الخارج:

(قبل الفجر بقليل، كنت أهبط الدرجات وأنا أحمل حقيبتي، وعند انحناءة السلم وجدت حجرة الضرير في مواجهتي والباب نصف مغلق. كان في الفراش مع زوجته. وكانت هي عارية تماماً، أما هو فقد كان يرتدي فانيلة قصيرة على جسده الضخم الأشعر. كانت يداه تتحسسان السطح الخارجي لجسد المرأة وتتعرفان عليه في تكوينه العام وتفاصيله بدربة ودودة مذهلة. توقفت في مكاني ورحت أتابع ذراعيه وكفيه وأصابعه. وخذلتني قدماي ولم تعد بذراعي قوة) ص111.
وعلى الرغم من أن زمن القصص محدود، فالحدث قد لا يستغرق بضع دقائق، يجد الكاتب أن المدة كافية لإظهار تفاصيل المكان، وملامح الوجوه، وحركات الجسد، وحتى الملابس:

(أخرجت أنا نصفي الأعلى وملت إلى الناحية اليسرى، ورأيت بداية السلم الطويل المنحدر، ثم اعتدلت واتجهت إلى مكاني. مرة أخرى ثنيت ساقي تحت المائدة الخشبية وأنا أعود إلى مقعدي. ووضعت القلم، وأخرجت منديلي وجففت عينيّ المجهدتين، وأمسكت حافة المائدة الخشبية ودفعت نفسي إلى الوراء. وعندما مال مقعدي على قائمتيه الخلفيتين، ولامس كتفي الأيمن قاعدة النافذة، نظرت إلى هناك) ص116.

***
هذه الطريقة في الكتابة تنعكس على مجمل عناصر القص لدى (أصلان) لهذا نجد الحدث يتشكل من تعاقب الصور التي يشكل ترتيبها الحبكة المركبة كلوحة فسيفسائية صغيرة، مشكلة من سطور ملونة تختزل المشاعر والأشياء في كلمات قليلة، ورغم ذلك ثمة تفاصيل إضافية لا مبرر لها مقحمة بين السطور، لاسيما أن القصص غير كثيرة الصفحات لتتحمل الإسهاب المفرط أحيانا.

لا يحاول (أصلان) الخروج من عالمه الذي وجد فيه نفسه، وهو عالم البسطاء الذين يعيشون بتسليم إذ ليس لديهم خيار آخر، بل لا يسعون لتغيير مصائرهم، أو البحث عن معيشة أفضل، وأحلامهم إن وجدت مجرد أمنيات متواضعة. وهذا ينساق مع حركة الحدث الهادئة، والرتيبة أيضا، وكأن المصادفة تعيد ترتيب ما يجري بالطريقة ذاتها كل مرة.

ويرى القارئ في كل قصة صوراً سردية تثري مخيلته البصرية، وتثير مشاعره، وتجعله أكثر حساسية عند تأمل الأشياء من حوله. بل وتحثه على إمعان التحديق ليكتشف بنفسه صوراً ما كان ليعيرها أية أهمية من قبل، رغم أنه كان يمر بها يومياً. وذلك بعدما لفت نظره القاص صاحب النظرة الثاقبة إلى طرق جديدة لرؤية العالم من حوله.

ورغم تشابه قصص (أصلان) في خطوطها العريضة يتفوق بتحريك عدسة قلمه ملتقطاً الصور السردية بعدسة فنان حاذق، ولكن على قارئه ألا يبحث عن أفكار معقدة كما في قصص (نجيب محفوظ) أو عن نظرة عميقة للحياة كقصص (يوسف إدريس) أو على أحداث غير مطروقة بطريقة (غابرييل غارثيا ماركيز) وهذه المقارنات لا تدين الكاتب الذي له أسلوبه الخاص، فالجميل في الأدب أن تكون لكل كاتب طريقته في الكتابة، وإن تفاوتت أهمية تجربته الأدبية كقيمة أدبية وفنية وفكرية.

والأسلوب المبتكر للمصور البارع (إبراهيم أصلان) مفيد لكتّاب القصة لأنه ينبههم إلى أهمية تشكيلات الصور في القص، ومدى قدرتها على تقديم الشخصيات أو صناعة الحدث، لهذا لا تصبح الرؤية البصرية في القص وسيلة لغاية مضمرة، بل هي غاية بذاتها، وهذا ما يميز كتّاباً أطلق النقاد على أسلوبهم في الكتابة (السرد السينمائي) لأنهم كسبوا جمالية رسم الصور الحسية بأقلامهم، وإن على حساب الغوص في أعماق الشخصيات وأبعاد الأحداث: (فالقلم السينمائي إذن يقتصر على اقتناص سطح الأشياء) وهذا لا يعني إدانة هذا الخيار في الكتابة السردية، فتنوع الأساليب في صالح الإبداع المتنوع بطبيعته.

وحسبنا أننا في حضرة كتابات (أصلان) نتعرف على هويته من تقنيات تفرّد فيها وأجاد، وحسبه أنه وضع بصمة خاصة في سجل السرد العربي، بل المصري على الأقل!.

***
لعل من الجدير بالذكر أن (بحيرة المساء) هي التي قدمت كاتبها إلى المشهد الأدبي في مصر، وعدها دارسوه من أهم أعماله.

أما نسخة الكتاب التي اشتغلت عليها فهي نادرة لأن المؤلف صحح الأخطاء المطبعية بخط يده، وهذا يساعد بشكل أفضل على فهم نظرته إلى نصه بتعقب ما أضاف أو حذف من أحرف وكلمات لا تؤثر على السرد، وقد لا ينتبه إليها القارئ الفطن، أو حتى الناقد الخبير. مع العلم أنه غير موفق دائما في اختيار المفردات الدقيقة أو تركيب الجمل المناسبة، ويعود السبب لمحدودية قاموسه اللغوي وتمكنه من اللغة المكتوبة، مقارنة مع إجادته توظيف اللغة البصرية!.