“اختبار الندم” خليل صويلح للكاتب السوري.. رواية عن الحب وفواتير الكراهية الباهظة

868

حربي محسن عبدالله/

“اختبار الندم”، رواية جديدة للكاتب خليل صويلح صدرت مؤخراً عن دار نوفل ودمغة الناشر هاشيت انطون – في بيروت. الندم هنا حسب الرواية هو “ربما اعتذار متأخر عن أفعال كنّا نظنُّ أننا على صواب لحظة ارتكابها، أو عدم تحقيقها لحظة التفكير فيها”. وربما أيضاً هو الأسف على انكسار الأحلام، بل تحولها إلى كوابيس في زمن القسوة والعنف الذي أطاح بحلم الحرية وحلم المستقبل الواعد.

حلم الوصول إلى نقطة التحول النوعي بعد كل هذا التراكم الكمي للتجارب والمصائب والأهوال، لكن للأسف تتحول الأفعال إلى دوران في حلقة سيزيفية من العذاب الجحيمي واللاجدوى.

يوميات الحياة والحرب

تأخذ الرواية في أحد مساراتها منحى تسجيل يوميات الحياة القاسية في ظل الأزمة الدائرة في سوريا، وترصد التحولات على أكثر من صعيد، خاصة مايمسّ القيم الساكنة وكيف انقلبتْ موازينها رأساً على عقب، فزمن الأزمة والحرب هو زمن مختلف تماماً عما قبله. بل لا نبالغ إذا قلنا أنها دنيا أخرى هي غير الأولى التي عرفها الناس من قبل. فللحرب قوانينها وللقسوة نواميسها وللكراهية حرائقها المدمِرة وفواتيرها الباهظة. ومن جانب آخر تكتنز الرواية بالتحولات على صعيد التجارب الشخصية المرّة في ظل تلك الحياة..

مبضع الغياب

في بياض الصفحة الأولى وفي أول قطرة من غيث الرواية نقرأ (كان على أحدنا أن يقيس مقدار الألم بمبضع الغياب). تأخذ هذه العبارة شكل ومضة تضيء لنا الطريق إلى الرواية لنتهيأ نفسياً لما يأتي بعدها من اقتباس من كلمات شاعرة من بورتلاند-اراغون في الولايات المتحدة، صبية في مقتبل العمر هي ((كليمانتين فون راديكس(( Clementine Radics Von نالت شهرة كبيرة وإقبالاً ونسبة مشاهدة كبيرة على المقاطع الشعرية التي بثتها على اليوتيوب وتلاقفتها صفحات مواقع التواصل الاجتماعي جاء فيها:

(لستُ أول امرأة تقع في غرامها…ولستَ أول رجل أنظر إليه، وأنا متخمة بآمال كثيرة…كلانا قاسى أوجاع الفقد الحادّة، كما نصل السكين…كلانا عاش بفمٍ مغطّى بجروح متقشرة…أكثر من الجلد…حسناً، إليك ما سنفعله لنلتئم…سأقبلك كما لو كنتَ الغفران ولتضمني إليك كما لوكنتُ الأمل…أذرعنا ستضمّد الأوجاع… ولن أخاف أبداً من آثار ندوبك).

أعباء الفقدان

هذا المقطع الذي يفتتح الرواية يستخدمه الراوي لينهي به الرواية أيضاً قائلاً: “سأعتبر هذه الأبيات تميمتي في تحمّل أعباء الفقدان واختبار تضاريس الندم بسكة محراث مثلّمة.” هذه الكلمات تفتح الطريق لقراءة الرواية بدافع البحث عن الدعوة إلى الحب والأمل والإصرار على المضي في طريق الحياة مهما كان شاقاً وشائكاً. ثم يهطل علينا غيث الأحداث والأسئلة. إنها حكاية روائي وثلاث فتيات. يرويها راوٍ لم تأتِ الرواية على ذكر اسم له، تبدأ في يوم ممطر مع صديقة له، هي “أسمهان مشعل” أو “آمال ناجي” حسب الاسم المستعار الذي اختارته لصفحتها على الفيسبوك، نباتية، مطلّقة، تعيش في قرية نائية في الجنوب. “تشاغل نفسها باكتشاف انواع النباتات البرية، الزعتر، والميرميّة، واللافندر، وأكليل الجبل، بالإضافة إلى الطيور والزواحف، والحشرات، والرسم على جدران غرفتها نهاراً، واختبار صلابتها في كتم عواء ذئاب الرغبة في صدرها ليلاً”، تتأرجح عواطفها بين البوح والكبت، فنتلمس من كلماتها التي ترسلها على شكل نصوص إلى الروائي ذلك التوق الى تنفس الحرية بعيداً عن القيود الاجتماعية بكل عقدها وتعقيداتها تارة، ثم تعود إلى قناعها الآخر وهو هروبها من رغباتها الجسدية نحو التصوف والعزلة والتأمل كحالة دفاعية عما تمر به من عسف اجتماعي ولا تجد حريتها إلا ساعة الكتابة على الصفحة الزرقاء للفيسبوك، وهو الذي يلعب دوراً مهماً في حياة أبطال الرواية. ولأن “كل كلمة قناع” كما يقول هيدغر، نجد أن خلف العزلة والتصوف والتأمل امرأة تتساءل بلذة عن الحب ولحظات العناق وجوع الجسد. تغزو لغتها مفردات حسية مكشوفة، وشهقات حرمان وشبق خفي وهي في عزلتها هناك بعيدة نسبياً عن الأحداث الساخنة التي تغزو مساحات كبيرة في طول البلاد وعرضها. أما الروائي الذي يقرأ نصوصها عبر الفيسبوك فهو “تائه في جنون مدينة تشيّع قتلاها كل يوم، وربما كل ساعة، في أرتال من الجنازات.”

الموتى، والقذائف، والمهجرون

كان ينتقل من فكرة إلى أخرى ومن زاوية في مقهى تجترّ الأحاديث نفسها عن الموتى، والقذائف، والمهجرين، وأحوال الطقس، وقسوة العيش، إلى استعادة مشاهد متراكمة تبثها القنوات الفضائية لبلطة مرفوعة فوق عنق شخص يجثو مرغما على ركبتيه، او لرجل مقطوع الرأس تتدلى جثته من عمود كهرباء في ساحة مدينة عمرها ألف عام. إلى صور لشاحنات مكشوفة بأقفاص تحمل مئات المخطوفين لدى الكتائب المسلحة، إلى أخبار السينما التي تحولت إلى معتقل، إلى المفارقة المضحكة المبكية عن محطات اذاعات محلية كانت الحياة فيها “مبهجة بالإنشاء الرومانسي المبتذل في تفسير كل ما يجري خارج الاستوديوهات، وعطر ياسمين وقرنفل يفوح من جثة لغة ميتة،…”. يغادر الروائي كل ذلك نحو ورشة لكتابة السيناريو يحاضر فيها أمام مجموعة حالمة من الشباب، تأخذه هذه التجربة للتواصل مع الفتاة الثانية في الرواية، من ضمن مجموعة الشباب هذه، مرّت بتجربة قاسية بعد اعتقالها واغتصابها وقضم الذئب البشري لإحدى أذنيها بحالة من الشبق والكراهية والجنون. خرجت “نارنج عبد الحميد” من المعتقل بعد أربعة أشهر بنصف أذن يمنى وضلعين مكسورين، وجدة ماتت في غيابها. تختصر تلك اللحظة الوحشية التي تعرضت لها فتقول: “أختصر تلك اللحظة بكلمة واحدة: اغتصابي! لكنني خلال استعادتي لشريط اعتقالي أيقنت بأن اغتصابي الأول حدث قبل اعتقالي مباشرة حين علمت أن من أخبر دورية الأمن تلك الليلة عن مكان إقامتي، وخريطة مواعيدي، كان صديقي الحميم في “النضال السري”. المخزي أنه مازال يكتب على صفحته في الفيسبوك إلى اليوم وقائع بطولاته الوهمية في مواجهة الاستبداد، رغم أنه يقيم منذ ثلاث سنوات في برلين لاجئاً سياسياً.” فكانت الكتابة وسيلة لكي تستعيد حياتها لأن “الكتابة هي طريقتي للنجاة” على حد تعبيرها.
أما الفتاة الثالثة فهي “هنادي عاصي” أو بهذا الاسم كانت توقع لوحاتها. رسامة ملتهبة الأحاسيس فوارّة بالرغبات الإيروتيكية، فتاة لا تمانع في إقامة علاقة ثلاثية مع الروائي بمشاركة صديقتها نجوى. تهاجر هنادي إلى السويد لتصاب بالحنين إلى الأوقات السعيدة والمجنونة والمنهوبة قبل الفرقة التي فرضتها حرائق الحرب والمنافي والإخفاقات.

“اختبار الندم”، رواية شيقة بكل ما جاء فيها وبكل ما تحمله للقارئ من مناخات، وشخصيات، وأحداث، وآلام وحسرات، ورغبات، وحنين وحب وفقدان وتيه.