المثقف وجراح الهوية في رواية “التشّهي” لعالية ممدوح

92

فدوى عبود/
تكتب دونا هاراوي في مانيفستو سيبورغ “أجسادنا هي ذواتنا، وهي خرائط السلطة والهوية.”
في هذه العبارة، يشتبك الجسدي بالثقافي على رحابة مدلولاته السياسية والاجتماعية والدينية؛ بحيث تكون الجنسانية وفقاً لهذه الرؤية كاشفاً عن عمق الذات. وإذا كانت الهوية تعني وعي الإنسان بذاته وإحساسه بالانتماء؛ فإن خلل أحدهما أو طغيانه على الآخر يؤدي الى شخصيات مأزومة ومغتربة عن واقعها وعاجزة عن التواصل وستكون بتعبير أدونيس “محطّ إشكاليّات”.
إن هوية الإنسان، كما يراها الدكتور حسن حنفي “ليست شيئا معطى، بل هي شيء يُخلق باستمرار”، وحين تتوقف عن الصيرورة والتغير فإنها تتحول إلى هوية قاتلة لنفسها وللآخر. إنها اللحظة التي تسمى الإحباط حيث تتخلى الذات “عن حريتها”
لذا تلجأ الى أشكال من التحقق شاذة وغير سويــــّة، وهذا ما تثيره رواية “التّشهي” للروائيــــّة العراقية عالية ممدوح، التي تختار نموذج المثقف، ليس بالمعنى المثالي الذي حلم به جوليان بندا، ولا بالمعنى الوظيفي حيث المثقف المرتبط بالسلطة، الذي يؤدي وظيفة لديها عند غرامشي؛ بل من خلال رواية تطرح على قارئها أشكال تفتت وإخفاق الهوية الذاتية.
شروخ المهجر
والمعروف أن الهوية حين تثبِّت نفسها في صفة أو قناعة أو آيدلوجيا تموت وتغترب.
لذلك فإن الشخصيات في رواية “التشهي”: (سرمد- أبو مكسيم-يوسف طبيب سرمد) برغم كونها مثقفة، لكنها مهتزة، تفتقد التقدير الذاتي والتصالح مع النفس. تمتد كل شخصية على مساحتها الخاصة، ومن خلال تداعيات نفسية تعج بأحلام وأوهام وانكسارات وانتصارات وإحباطات، كذلك سنعثر على تصدعات وندوب وشروخ أحدثها المهجر في هويتها والنظرة التي ترى “أن إخفاق الهوية في التحقق قد يدفعها لأشكال من الشذوذ والعنف”؛ تنطبق على هذه الشخصيات التي هربت من الحرب وخسرت معنى المكان والزمان باعتبارهما لا ينفصلان عن تحقق هوية الإنسان ونموه.
يلجأ (سرمد برهان)، وهو مثقف عراقي الى الهجرة هاربـــا من أخيه الذي يعمل في المخابرات، لكنه يكتشف في الغربة عجزه عن الفعل الجنسي، ويتلازم هذا بالبدانة التي يمرّ بها في منتصف العمر. وهنا يتجاوز العجز معناه الظاهري ليصبح دلالة على الهزيمة. إنّ فقدان الوطن وضياعه والحروب الدموية جعلت سرمد يجد تعويضاً عن فشله وضياعه، إذ يبدو الأخير مجرد رد فعل يعجز فيه عن إقامة علاقة إنسانية سوية، بل علاقات يشوبها الانكسار، أو العنف الذي يمارسه على (فيونا)، ليتمثل فيها المحتل الأجنبي، ويبدو التواصل بينهما كانتقام.
تقدم عالية ممدوح الجسد كوسيلة للكشف عن محنة الهويــــة، وتضعنا إزاء ذوات لا تتواصل بل تتواجه، ويكشف الفعل الجنسي عن جراح الهوية، فنحن أمام شخصية متمردة وعاجزة، فالفعل الجنسي الذي هو فعل جمالي يمثل اتحاداً بين رجل وامرأة يتحول إلى فعل عصابي، مرضي، قهري لا غاية منه سوى نسيان الأسى.
هوية الإنسان
إن الانتماءات الفرعية هي أبلغ تعبير عن الهوية الضائعة، كما أن تجميد الإنسان في فكرة أو قناعة هو مخالفة لقانون الوجود. لقد تحدث سارتر مرة عن تصلب الذات وتحولها إلى شيء وهذا ينطبق على صفات (الشيوعي-القومي-المثلي-)
وفي شخصية (أبو مكسيم)، المثقف الذي تحول الى تاجر، يتبدى لنا نكوص الهوية واضحاً إنه (ينصب الفخاخ لزوجات الآخرين)، ويميل للاستعراض، وحين يتعرى نجد (البازبند) والأدعية المخفية إما تحت الكتف أو فوق الصدر، في إشارة الى هذه الازدواجية الهوياتية وهذا التشظي. تصف (البيضاوية) أبا مكسيم: “أتصوره يستيقظ ليلاً وهو يصرخ من الخوف والكوابيس وعلاقته بالمرأة مهزوزة. لأنه يحتقرها لكنه يستقتل للحصول عليها.”
إن الفعل الجسدي الشهواني يكشف أزمات الشخصيات التي تعاني، كما أن علاقتها ببلد اللجوء هي اغتراب مضاعف عن الآخر وعن الذات. وتعبر مقولة إحدى الشخصيات (مهند) أثناء سفره إلى روسيا هذا الخواء “وينك؟ وين رحت، سرمد اسمع. والله ما أدرى شنو السبب. ها بلكي تعرفه انت صاحب المزاج اليساري. كفاية يا أخي، لا الجنس يكفي ولا الفلوس ولا القتل الذي لا يخلص، ولا ذاك الجاه، لك سرمد حتى الموت لا يكفي.”
الوطن مكلوم ومصاب فالهزيمة لم تبدأ مع خسارة الوطن إنما قبل ذلك بكثير، حين تخفق أوطاننا في بلورة هوية الإنسان الحرة. فينوب عنها التوحش.
لقد قدمت عالية ممدوح صورة الهوية المهزومة عبر العلاقة الجسدية. التي فقدت روابطها وأصالتها. ولا يتمثل فقدان الهوية في الخواء والغياب والاغتراب سواء الميتافيزيقي أو الديني أو الاجتماعي، بل “قد يتمثل فقدان الهوية في العنف حين تصبح الذات عاصفة هوجاء هويتها خارجها تبحث عنها.”
وترى (وسن مرشد: فـ “(الجسد/ الجنس) تعبير رمزي يوظفه النتاج الأدبي الحديث خاصة، وهو نص له علامة ثقافية قبل أَن يكون ذا قيمة جمالية، وهذهِ العلامة الثقافية لا تتحقق دلالتها إلا عن طريق سياقها الذي أنتجها أول مرة، فمصطلح (الجنس، الجسد، الهوية) وهذه الصورة الكاريكاتورية الهزلية للشخصيات المغتربة تنطبق على يوسف طبيب سرمد، الرجل الخائف من المرأة الذي يصورها بعبارة (هن وليس غيرهن لهن روائح مقرفة، حليب فاسد، وطبيخ بائت، وبراز يابس). إن ميوله المثلية تبدو في مواقف عدة تختار الكاتبة هذه النماذج لتعبر عن أشكال إخفاق الهوية التي (قد تتحقق) في أشكال –وصفها الدكتور حسن حنفي- بالشذوذ الذي هو عنف مع لا عنف.
وهم يتشهون الحياة والأنثى، لكنهم يترجمون مشاعرهم بصورة سيئة، وذاكرتهم ظلت في حالة بحث عن هوية ومكان ووطن. وبما أن وعي الذات لا يتحقق إلا عبر حريتها، وتفتح الهوية يتم عبر تواصلها، فإن (التشهي) هي حكاية هويات تتجابه من خلال الفعل الجسدي الذي يفترض أن يكون وسيلة نمو لا العكس. كتب أحدهم مرة: (ليس الأدب مجرد قصص وشعر ومسرح، بل إنه أيضاً تحليل فلسفي لتجارب الحياة، وبحث عن دلالاتها).”

فدوى العبود –كاتبة سورية*