الحفر في أعماق الذاكرة

531

فلسطين الجنابي /

مازلت أذكر حديثنا الطويل قبل أن نلتقي، وكيف كنت تفتحين شهيتي للثرثرة حتى ساعات الصباح، كنت واثقة من أنك ساحرة باستحضار جن الرواية، وإلا كيف كنت تنجحين في إقناعي بالسهر كل هذا الوقت عبر التواصل الافتراضي، مع فارق الوقت الكبير، وحين اختفيت لوقت طويل، ثم عدت للظهور في بقعة جغرافية أخرى، ضحكت من كل قلبي لجنونك، وصفقت لشجاعتك، عرفت عندها أننا متشابهتين في هذا التحدي يا صديقتي.
بوح نسوي
لم يكن بوح عاشقة تهرِّب سراً محبوبها في كتاب مدرسي، ولا متمردة اختلطت عندها مفاهيم القيم الإنسانية فعبثت على صفحة إلكترونية تبحث عما لا تستطيع أن تجده، هنا بين هذه الصفحات وجدتني ووجدت أخريات يشبهنني ويشبهن الكاتبة في تطابق تام. ندا خوام سعت إلى أن تحفر نفقاً، ليس تحت الأرض، وإنما تحت الذاكرة، فاستحضرت ببراعة مصغياً غير تقليدي، ووهبته اسماً غير مألوف في محيط البوح النسوي العراقي، هو لم يكن من بنات أفكارها، ولكن من صنع كلمتها التي أرادت لها أن تخرج بوقع قاربت فيه التحفظ حد الترميز المشفر، وفي لحظة استغراق كاملة قذفت بكل ثقل رأسها إليه، فأنتجت هذا الكم الهائل من السرد الذي بدا –لوهلة- مذكرات سيرة ذاتية اقتطعتها الكاتبة على عجل من تربة حياتها لتهديها إلى أحبة، تفرقوا هنا وهناك في أرض شتتتهم عن ذواتهم قبل أن تذوبهم في عناوين المدن التي لمتهم من انفجارات المدن التي غادروها ولم تغادرهم.

خيط الحكاية
وأنا أقرأ كتابك الأول صديقتي في صالة مطار بيروت وأنا انتظر الطائرة التي ستحلق بي في ظلام ليل، إلى الأراضي التي لا تشبه أرضنا، كنت أتساءل لو لم تكن بيروت مدينتك الآن هي الحاضنة.. ترى هل كان سيكون استحضارك للماضي بهذا الشكل المفعم بالدهشة والاستغراب؟ هل كانت علامات سؤالك المطروحة أرضاً في أرض كل ما فيها ينبت الشك حتى بأنفسنا؟
كنت أقرأ بشغف، وفي كل مرة يفلت منك خيط الحكاية، كنت أواصل أكثر لأعرف أين أكملتها، وفي أي جزء من الكتاب عدت إليها، ورغم أنك لم تصلي إلى نهاية في كل الحكايات التي حدثتني عنها في هذه الرواية، لكنك خلقتِ عالماً مقصياً عن حقيقة ما نعيشه، وأعدتيني، بحيلة ساحر، إلى عمر السلام الذي كان لنا يوماً، برغم كل القيود التي خاطوها على أصابعنا وشفاهنا، وحتى كتبنا، كنا نعرف كيف نحلق بحرية دون أن يلمحنا قناص، أو يردنا إلى سفالة المر الذي كنا نتجرعه موعظة من صديق، قد تقال بحسن نية، لكن قليلاً ما كانوا يفعلون .
حبل سري
الماضي الذي كان حاضراً بالرغم من إشباعك للحكاية في الوقت الحاضر، ورغم أنك أطرت محبوبك بثقافة مغايرة، لكن ثمة حبلاً سرياً لم تحسني قطعه بفنية قابلة متمرسة، أو ربما تركته عمداً يا صديقتي، كان يعبر إليك خلسة من ثغرة بحجم ثقب رصاصة، هي ذاتها كانت مصوبة إليه، غير أنه لم يكن ليموت بهذه السهولة .
في بداية كل نص شيء من السرد يبدو متماسكاً للوهلة الأولى، ثم يبدأ بالذوبان، لتقفز الكاتبة بنا إلى حكاية أخرى وتنسينا ببراعة ماكنا نحث القراءة على اكتشاف مصيره، ومن ثم تقطع علينا المشهد بحوارية بينها وبين هذا الـ بودلير الذي لعنته مرات عديدة، فلولاه لربما أشبعت الكاتبة فضولي وأتمت علي حكايتها كي أنام. هنا وجدت ندا سليلة لشهرزاد بحرفية مطلقة، فاستوت تتوالد الحكايات، فتغرقني بقصص كثيرة تشابكت علي، ولولا أنها تعود لبودلير هذا، لخيل لي أنها دست نصوصاً غير مكتملة من روايات كثيرة في هذا المطبوع، إنها تترك هناك عطشاً وحرقة حين لا تكمل روايتها لقصة معينة وتخلق شغفاً أكبر، حين تقضم، مثل طفلة عنيدة، تفاحة الحكاية وتستبدلها بسرعة بتفاحة أخرى دون أن تأبه إن كانت تفاحتها تلك مازالت غير مكتملة. وجدت هنا امرأة تحلق كنحلة بين عوالم كثيرة، لا لتخرج علينا بشهد كما هو مألوف، كانت تجمع رحيق الحكايات من نساء حقيقيات مررن بها صدفة، فتركت كل واحدة منهن جرحاً مفتوحاً حرصت الكاتبة أن تجد ثمة صلة قرابة بينها وبين كل هذا الكم من النساء، مجهولات المصير، جميعهن عاشقات، هاربات ومهزومات بشكل ما، لكنهن شجاعات جداً حين عبرن سور المِحنة من أجل حياة لم تعدهن بالكثير. وهذي هي شخصية الكاتبة، إنها شجاعة جداً كما أعرفها، بالرغم من أن الحياة لم تعدها بالكثير، هنا وجدت حبلها السري وعرفت أن قابلتها التي لم يكن مقصها حاداً بما فيه الكفاية ليقطع حبل الماضي، ذاك الماضي الذي –للحظة- قادني إلى أكثر من عشرين عاماً مضت يوم قامت الأكوان بمحاربة بلادي، لتبدأ بعدها رحلة السنين العجاف، ولحظة سقوط الإنسان ليورثنا هذا الجحيم الأرضي، كانت ندا تحفر على غير هدى في ذاك الجدار المثقوب برصاصة موجهة إليها وإلي، وإلى كل نساء البلاد لتحاكي، عبر تلك الفوهة الصغيرة، سر رجل لمسته في إمعانها بالتفكك والتحرر من سيرة تلك المرأة التي كانت هناك، كانت تنجح في كل محاولة للتحليق، إلا أنها لم تشأ أن تحلق بعيداً، خافت مثلي ومثل كل الذين غادروا السرب، خافت أن يضيع درب العودة، رغم يقينها أنه ما من عودة، لكنه حنين المنافي الذي يدب كضعف في أجسادنا العارية من الوطن.ندا، وخياناتها، كانت وفية جداً، أكثر من كل الذين خلعوا على أنفسهم ألقاب الوطنية والقومية والدين والله، ندا في خياناتها كانت حاضرة بعمق في عقل كل امرأة صادفتها، لم تشوه تلك الصور، لم تلعن بخل الوطن، ولا الله، كان يكفيها شبح مخبول مثل بودلير، وبوظة مسروقة من جادة طريق، لتسترخي كطفلة أنهت جميع فروضها المدرسية وخلدت إلى دميتها تحدثها عن أحلامها التي ستكون، غير أن ندا حدثتنا عن أحلامها التي كانت.