الخالق بقوة الموهبة

134

كاظم غيلان/

لم تكن إطلالة مظفر النواب على شعر العامية إلا ما يشبه ذلك البرق الذي أربك سماء فيها من رتابة الوجود الكثير، لم يكن هناك سوى شعر (شعبي) بسيط ممثل بأشكاله التقليدية الرتيبة، بين ماهو هتاف حماسي – أهازيج ثورة العشرين – وقصائد ذات مسحة دينية مباشرة، لم يكن هناك ما يشير إلى موهبة تستحق التأمل باستثناء بضعة موالات للحاج زاير .
كتب مظفر النواب قصيدته (للريل وحمد) بين أعوام ١٩٥٦- ١٩٥٩ خالقاً قصيدة بالعامية العراقية، جديدة، غير مألوفة، صادمة مدهشة بكل مايعنيه الخلق:
أرد اشري جنجل..
والبس الليل خزامة
جن كذلته والشمس والهوا هلهولة…
وراح بعدها يتسع بفتح ذلك الأفق اللامنتهي ليؤسس خطاباً شعرياً، ولا أقول ( يجدد)، فمن قبل ما كتب لم يكن ثمة شعر نطلع عليه عبر إصدارات كما هو حال شعر الفصحى الذي كانت له فعالياته وإصداراته قبيل حركة التجديد التي حققها السياب، و بلند، و نازك الملائكة.
توالت قصائد مظفر وهي تنسج الرؤى الجمالية وتنهض بموضوعات تتصل بتجربتيه الذاتية والعامة، تلك التي نجدها في قصائد انتفاضات الفلاحين، حيث المرأة تطل بجمال بعيد عن النواح والصراخ كما في (غيلان ازيرج):
احط الحجل للثوار ..
كمره ازغيره ع المعبر
وأشيّم أترف النجمات ..
فوك اشراعكم تسهر..
من أين جاء مظفر المدني، ابن العائلة البغدادية بكل ذلك الثراء الجمالي الذي أخفته طويلاً لهجة جنوب العراق، وأهواره تحديداً، لو لم يكن لعبقرية مظفر فعلها:
يازين الذي ابطرواك
دلتنه الجبيرة اتكوم للخطار
مهرة, ومن بنات اكحيل
مهرتك حنه حنتهه
مري احديثات كصتهه
كان لهذه العبقرية دور في عملية الخلق تلك، التي استمرت لترافق تصاعد شهقات روحه المترعة بالعنفوان، والشبق، والهمس، والقتال ايضا:
هورة وكل كصبهه يخرخش بموتك ..
وروحي اويه الجبايش جنهه تتكلكل ..
أجزم أن أبناء الأهوار والشعراء، المولودين فيها، والقادمين منها، لم يرتفعوا باشعارهم – فنياً- بالمستوى الذي كتبه عنها المدني البغدادي مظفر النواب:
كمريه .. وزبونك طيف
فزز وحشة الغافين
كل دلّه ابسماهه اهلال
تشرك بالمضيف اسنين ..
اللامألوف كان قدر مظفر في إتيانه باستخدامات لم يألفها الشعر برمته:
ياسولة سكتّي
جانت ثيابي علي غربة
مظفر الشاعر، الفنان التشكيلي، المسرحي، الموسيقي الذي يذهلنا حين يغني، مجموعة مواهب تدفقت في خلق قصيدة جديدة، جمعت مكوناتها بوعي وتجربة نادرين رافقها موقفه المتفرد بكل ما فيه من نقاء وإصرار وصلابة نادرة.
يرى البعض أن قصيدة مظفر لا تنتمي إلا إلى آفاق ريف العراق، ولا أدري كيف لهذا البعض أن تناسى ملامح المدينة الواضحة في العديد من قصائده:
ديج ابو العرفين ومحجل حجل حبي علامة
حطت اطيور المحلة
وهو يكلب من غرامه
فالمحلة البغدادية التي شهدت طفولته تجدها إلى جانب (هور الغموكة) الذي شهد قتاله ضد السلطة. وهكذا يتسع أفق النواب ويلم بكل مافات من سبقوه، ولذا كانت تجربته (استثنائية) بحق.