عندما رتقَ النواب فتقَ ابن مسعود

207

سرمد عباس الحسيني/

في بيئة منزلية ازدانت زواياها بلوحات مرسومة على جدرانها، لم تخلُ بالطبع من صورة لأمير الفقراء، لوحات ألهمت مخيلته الإبداعية الفنية التشكيلية بخط موازٍ لإبداعه الشعري، وبآلة بيانو توسطت صالة الدار رفقة عود لوالده وضع على (صندوق طنينه)، شنّفت شدواهما أسماعه، في ذات الوقت الذي تشبعت أذنه بمرثيات كربلائية ألقت بظلالها على بيئته (الكظماوية).
تلك المرثيات المستمدة من (ثغيب آلام كلكامش) على (أخيه) البطل (أنكيدو)، في حزن كربلائي سومري سرمدي منذ سبعة آلاف عام، في تناصٍّ تاريخي عجيب لذات مفردات الحزن وأبطاله، تلاها بآلاف السنين في طفِّ كربلاء.
هذه المراثي التي تميزت بها مدينته بحكم تاريخها وقدسيتها الدينية المعروفة، ألقت بظلالها على تلك المراثي وحكاياتها عن الظلم التأريخي لكل ما حمله (مظفر النواب) في ذاكرته من رموز وشخصيات ومعطيات أسهمت في تشبع وعيه، وحتى لاوعيه، بمعاني مناوءة الظلم، والسعي نحو تحقيق العدالة الاجتماعية ما استطاع إليها سبيلا.
لذا فقد كان من المنطقي أن يستلهم النواب رموزه المناوئة للسلطة القمعية، أو رموزه المعترضة على النظام الاجتماعي الطبقي بشقيه الأرستقراطي والإقطاعي من المتمردين على هذه النظم بنماذج تنتمي إليه فكرياً، أو حتى مكانياً. فكان النهج الذي تبناه (أبو ذر الغفاري) نموذجاً ملهماً لأفكاره، وليحمل بكل ما يعي هذا الاعتقاد من معنى على كتفيه كعبء صخرة أطلس، ومغادراً باعتقاده المؤمن به، نحو سعيه في البحث عن الحقيقة بمعناها الجوهري، أو حتى المثالي، سائراً نحو خطى (كلكامش) في بحثه عن خلوده.
الخلود.. الذي يتبلور في مخيلة الباحثين عنه، يختلف من باحث إلى آخر، اشتركوا في الهدف النبيل له، واختلفوا في سبل السعي إليه، فالبعض سعى إليه عبر موقف أفلاطوني حفظه التاريخ، والبعض الآخر عبر كلمة حق عند سلطان جائر، والآخر عبر قتال مسلح.. وغيرهم كثير.
وإذا ما كانت فكرة الخلود الأولية عند (كلكامش) ارتكزت في سعيها نحو (نبتة) تطيل عمر الإنسان وتخلده إلى يوم يبعثون، قبل أن تسرقها منه (الأفعى) ، ليعي بعد أن ابتسم له القدر الغيبي بخسارته (النبتة)، ووصوله إلى نهاية رحلته وموت رفيقه، أن حقيقة الخلود تكمن في فعل الخير ونصرة المستضعفين، وتحقيق العدالة الاجتماعية، ولتنتهي بعد ذلك تراجيديا (كلكامش) بموته (هانئاً) مطمئناً خلف أسوار مدينته (أوروك)، تاركآ إرثاً من المثالية الإنسانية كانت مصدر إلهام لجمهورية أفلاطون المفترضة.
فتراجيديا (كلكامش) تختلف عن تراجيديا النواب، التي كانت تختلف في مساعي بحثها عن الخلود، لا في أساس سعيها.
فخلود النواب تمثل بتجربته الشعرية الممتدة على مساحة كبيرة من تبنيه الهمّ الإنساني عموماً، ولهمّه الذي حمل فيه دمه على راحة يده، وهو الأمر الذي منح النواب فسحه لا يستهان بها في تجسيد التجارب الإنسانية، وتوظيف رموزها في صراعها الأبدي بين طرفي الخير والشر في معظم طروحاته الإبداعية، وأن يستحضر بلا وعي منه ما غاب عنه الوعي، رمز العدالة الإنسانية و(رائد الاشتراكية الأول)، إمام المتقين وناصر الفقراء والمستضعفين (أبــــــــــــــا الحسن) أمير المؤمنين في وعيه اليقظ، مرفقاً معها بدراية قناعة (بقجة) زاده وزوّاده الفكري والجسدي، هارباً بمثالية أفكاره من قمع السلطة وزبانيتها ، ومن مساحة التباين الطبقي إلى مساحات الثــــــوار التي لا تحدها جدران وزنازين، ذلّها فيما بعد بـ (خاشوكة) نحو فضاء الحرية وصوتها الصادح، وليتمثل له (أبو ذر الغفاري) نموذجاً فريداً لمن يخط تاريخه بشرف الاعتقاد بالقضية، ولا يهم حينها أن يموت بعدها منفياً وحيداً طريداً في صحراء (الرّبذة)، وكيف لا يرعبهم (الغفاري) إذا كان ملهمه إمام الإنسانية وعلم المتقين (عليّ) ؟!
ذات (عليّ) ألهمت النواب فاستحضرها في وجدان قصائده، مخاطباً إياه بـ (ملك الثوار) الذي يستجير برمزيته في مواجهة سجانيه ومعذبيه، فقد استل النواب علياً من بين كل التأريخ الذي حفلت به الخليقة منذ نشوئها، وما خطئ النواب ولا خطّئ في صميم ومعنى استلهامه، فمن يملك مثل (علي) تلك المثالية المفرطة….. لا أحد!
مثالية جسّدها النواب بلسماً لجراحات سياط معذبيه على ظهره النحيل المكبل بكرسي التعذيب عندما قال:
واحتشد الفلاحون عليّ وبينهم كان
عليٌّ وأبو ذر ولوممبا وجيفارا
لا أتذكر، فالثوار لهم وجه واحد في روحي
غامت عيناي من التعذيب
تشقق لحمي من السياط
فحط عليٌّ رأسي في حجره
وقال تحمل.. فتحملت.
وتحمل النواب، كما تحمل (ابن مسعود) فتقه رتقاً بسورة الواقعة.
لذا.. ليس من المستغرب بعد ذاك.. أن يكون عمره وعمر تحمله أطول من عمر سجّانيه وسياطهم بخمسين ألف سنة مما يعّد الطغاة.