الدكتور علي وتوت: العراق بلد متعدّد ومتنوّع ولا يتحمل الهوية الواحدة
د. علاء حميد /
الدكتور علي جواد وتوت أستاذ علم الاجتماع السياسي في كلية الآداب / جامعة القادسية، عاصر مرحلتين مر بهما المجتمع العراقي، فقبل 2003 كان يعمل على إكمال دراسته في علم الاجتماع، ثم بعد 2003 أعدَّ أطروحته عن (الدولة والمجتمع في العراق) التي طبعت في كتاب صدر عن مركز دراسات المشرق بيروت.
التقته مجلة الشبكة لكي تحاوره بشأن ما مرّ به المجتمع العراقي من تحولات اجتماعية أخذت تظهر بشكل ملموس في الظواهر التي لم تكن معهودة من قبل.
تحليل المجتمع
• بعيداً عن السياسة وهمومها، كيف ترى المجتمع العراقي قبل وبعد 2003؟
– شكّل التاسع من أبريل 2003 نقطة فارقة في تاريخ تكوين (المجتمع في العراق)، ولا زلت أفضل استخدام المصطلح الأخير بديلاً عن مصطلح (المجتمع العراقي)، لأنَّ الهوية العراقية ليست بالنضج الذي يمكنها أن تُضفي الواحدية على مكونات العراق، كما أنَّ الجماعات الاجتماعية في العراق ما زالت غير قادرة على تشكيل مجتمعٍ واحدٍ ذي هوية (جامعة مانعة) تتجاوز الانتماء الصوري لتحوله إلى ولاء فاعل – وهذا موضوع طويل لا تسعه في تقديري هذه العُجالة، وعودة إلى سؤالك زميلي الفاضل، لا أستطيع القول إنَّ بالإمكان الابتعاد عن المنظور السياسي في تحليل المجتمع، رغم ذلك شكّل انقسام المجتمع في العراق إلى جماعات غير متوافقة، ولا تثق إحداها بالأخرى سمةً رئيسة من سمات المجتمع منذ محاولة بناء (الدولة – الأمة) عام 1921 ولغاية زمننا الراهن، إذ يتجلّى هذا الانقسام بأبشع صوره بمجتمعات منعزلة لا ترى فيها قبولاً وانسجاماً اجتماعياً للآخر المغاير في العراق، في تناقض صارخ مع واقع التنوع الاجتماعي في العراق، إن الجماعات الاجتماعية لا تشترك في هموم وطنية واحدة، وليس لديها أهداف مشتركة، ولا ترى نفسها تعيش مصيراً مشتركاً !!! وهذا عائد إلى فشل الدولة العراقية قبل التاسع من نيسان/ أبريل 2003 وبعده، في توحيد المجتمع وخلق أمة عراقية مما أسهم في صعود النزعات الانقسامية بوضوح بأعقاب انهيار الدكتاتورية (إقليم شيعي أو سُنيّ أو انفصال كردستان). هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى أثبت (المجتمع في العراق) أنَّ ذاكرته سمكية (أي إنَّها محدودة) وذلك في ظل الأزمات المتوالية التي مرّ بها المجتمع في العراق، في ثقافة لا تميل نحو التدوين أو التوثيق الموضوعي، ولأضرب مثلاً بالأعوام الثلاثين الأخيرة، أتذكر أنّني كنت قد نجحت تواً من الصف السادس الابتدائي إلى المتوسطة، حين أعلن الدكتاتور الحرب ضد إيران وتوقفت الدراسة لمدة تزيد على شهرين، وبدأ قطار الموت في رحلته التي استمرت طوال أعوام ثمانية يحصد أعمار شباب العراق، لقد تمنّى معظم العراقيين (ولست هنا اتحدّث عن الساسة، بل المجتمع) أن تنتهي هذه الحرب بأي شكل من الأشكال، وكان إن انتهت بعد أن يئس معظم العراقيين من نهايتها، وإذا كانت (الحروب توقظ الشعوب) فإنها لم تفعل فعلها في العراق، إذ بعد عامين دخل النظام في حرب احتلال الكويت في ظل مساندة شعبية (صغرت أو كبرت) لكن نتائجها الكارثية من حصار اقتصادي أكل الأخضر واليابس، مما دفع الناس إلى التبّرم من الحصار والتحسر على الوفرة الاقتصادية في سنوات (حرب إيران) كما تدعى شعبياً، وتمنّي زوال نظام صدام، غير أن احتلال الولايات المتحدة للعراق وإسقاط الدكتاتورية فيه لم ينه شغف بعض الأفراد الناس بالحروب ومنافعها، ليعلن كثير من الناس بعد عقد ونصف من الارتباك والفوضى والعنف والفساد بفعل التجربة الديمقراطية بعد التاسع من أبريل 2003 أن زمن الدكتاتورية هو (الزمن الجميل !!!) وأن كل جرائم النظام السابق لا تعدل ما حصل ويحصل منذ إسقاطه،غير أن هذا الحال يحيلنا إلى تصور مفاده أن (الحنين إلى الماضي) العراقية سببها سوء الحاضر وليس جمال الماضي أو حسنه. ومن هذا يصبح منطقياً التعبير عن الدهشة بإزاء القناعات الاجتماعية المتناقضة التي تسود المجتمع في العراق اليوم، فالفساد المرفوض من قبل الجميع، يمارس من قبل الجميع، أو يقبل به الجميع أيضاً.
الاكتشاف الاجتماعي
• إلى أيّ مدىً أسهم تخصصك في السوسيولوجيا (علم الاجتماع) في ملاحظة وتحليل ما يجري في العراق ومجتمعه؟
– استطيع أن أدعي أنني اخترت تخصصي في السوسيولوجيا (أو علم الاجتماع) بفعل صدفة قادتني لها قناعاتي الشبابية (الثورية) التي أستطيع وصفها الآن بـ(المتهورة)، وذلك بعد رفضي الامتثال إلى قرارات النظام السابق في الذهاب إلى معسكرات تدريب الطلبة الجامعيين في العطلة الصيفية، فتم فصلي من دراستي الجامعية وإرسالي للخدمة العسكرية الإلزامية على الرغم من كوني كنت قد نجحت إلى المرحلة الثانية من دراسة البكالوريوس، وهكذا بعد أدائي لخدمتي العسكرية الإلزامية سمح لي بالعودة إلى مقاعد الدراسة الجامعية، فاخترت بوضوح ذهني كاف عدم العودة إلى تخصصي السابق، ودراسة السوسيولوجيا (علم الاجتماع) إيماناً بأن للأفراد وحتى الجماعات دورهم الأساس في المساهمة بحلّ مشكلات المجتمع.
إن مهمة الباحث الاجتماعي هي اكتشاف (الاجتماعي)، وهذا الاجتماعي لا يمكن تفسيره إلا بالاجتماعي. لذا فإن موضوعها (مخفي باستمرار). فالباحث السوسيولوجي ليس متنبئاً أو رائياً للأحداث.. بل يلاحقها ويحاول تفسيرها بشكل واقعي مفهوم وليس بشكل غيبي. فهو يطرح الأسئلة الممنوعة من التداول، محاولة للفهم،.. ولذلك تبقى السوسيولوجيا خياراً واعياً للنخبة الثقافية.. وهي خارج الأيديولوجيا تماماً.
صدمة ثقافية
• يميل أغلب من واكب ما يجري في العراق بعد 2003 إلى وجود تغير اجتماعي، هل تعتقد أن هذا التغير إن تحقَّق قد أثر على القيم والتقاليد والعادات العراقية؟
– إنّ التغير صفة من صفات المجتمع، يكون نتيجة لعوامل ثقافية واقتصادية وسياسية عدة تتداخل مع بعضها ويؤثر بعضها في الآخر وينتج عنه عادةً تبدلاً في أنماط السلوك والتفاعل الاجتماعي، وتحول في المعايير وحتى القيم الاجتماعية،لا شك أن العراق كان قد انقطع عن العالم في أعوام الحصار الاقتصادي، فكان دخول التقنيات الحديثة يشبه الصدمة الثقافية للجماعات الاجتماعية في العراق، فالبث الفضائي والانترنت وأجهزة الموبايل الذكية كان لها قدرة فريدة على تغيير القيم والقناعات الاجتماعية التي ظلت راسخة لعقود طويلة بفعل قدرتها على التوصيل الفائق السرعة للبيانات والمعلومات وحتى الأفكار، فنمط التنشئة الاجتماعية المتحفظ الذي ظل سائداً طوال عقود اختفى أو يكاد بفعل انتشار هذه التقانات وتوسع استخدامها، وأصبح الأب العراقي غير قادر بشكل كامل على ضبط سلوكيات أبنائه وبناته وعلاقتهما كما كان يحدث في الماضي، كما زادت هذه التقنيات من ظواهر التفكك الاجتماعي وصراع الأجيال، فأسهمت بشكل أو بآخر في تكوين قيم واتجاهات لدى الأحداث والشباب، تختلف تماماً عن اتجاهات الآباء والجيل السابق، فمثلاً نقل البث الفضائي والانترنت عادات وقيم مستوردة لا تنسجم ولا تتناسب دائماً مع ما تلتزم به الأسرة في مجتمعنا المتحفظ من قيم وتقاليد، مما أفرز تباعداً بين جيل الآباء وجيل الأبناء.
سيّئ وأسوأ
• هناك من يجادل حول ما يواجهه العراقيون من أزمات أنَّها مسار طبيعي لما مر به العراق من استبداد وتحكم، وآخرون لا يتفقون مع هذا الوصف كيف تعلق على هذا الأمر؟
– غالباً ما كان هاجس الشعوب التي تحكمها أنظمة مستبدة، هو التخلص من الاستبداد، لكن في الحديث عن استبداد نظام البعث والذي حكم في العراق ينبغي التأكيد فيه على فرادة النظام وتطرفه في ممارسة هذا الاستبداد، فهو كنموذج للنظام السياسي المريض خلق ضداً نوعياً (أو معارضةً) مريضة بالمقابل، أصبحت تحكم منذ إسقاط النظام الدكتاتوري فكان الخيار بعد أكثر من عقد ونصف بين سيّئ وأسوأ، وفقاً لهذا التحليل يمكن الاستنتاج أن نظام البعث، والدكتاتورية التي خلقها، قد أنتجت سلسلة لا متناهية من الأزمات، التي رغم أن العراقيين حاولوا وما زالوا مواجهتها إلا أنها خلّفت فيهم شخصية اجتماعية رجراجة، وفقاً للتوصيف التراثي (أي مهتزة أو مضطربة)، بفعل السخط على النظام الاستبدادي والخوف منه، فهو متردّد في حسم قضاياه، لا يستطيع أن يتخذ رأياً بشأنها، كما أنَّه خلق ضعيفاً وغير متماسك، فبدت الديمقراطية عملية مخاض صعب لا يمكن تخيّل نتائجه (نجاحاً أو فشلاً بحسب توصيف محمد عابد الجابري المفكر المغربي)، والثقافة الاجتماعية السائدة أكثر تماهياً مع الدكتاتورية، بالمقابل فإنَّ الإصلاح السياسي في العراق (ممثلاً بسقوط النظام الدكتاتوري) دون قيام إصلاح اجتماعي وثقافي واقتصادي وتربوي وديني/طائفي سيؤدي إلى اختلال اجتماعي واسع وصراع ومعارك أهلية على أساس طائفي وديني. لذا لا بد من الإصلاح الاجتماعي، بالتزامن مع الإصلاح السياسي أو متقدماً عليه!