السرقات الأدبية.. تهمة لم يسلم منها المبدعون!
ياسمين عباس /
ما إن يظهر عمل إبداعي لافت، حتى تطاله سهام الاتهام بالسرقة، فكرة أو نصاً أو استلهاماً، ولم يسلم جنس أدبي عن آخر من هذه الاتهامات، فالسرقات الأدبية باب معروف من أبواب النقد، لم يقتصر على الأدب العربي، فالعديد من النصوص الإبداعية العالمية اتهمت بالسرقة، ومع شيوعها، تظل سبّة السرقة ملاصقة للأديب تحط من قدره ومكانته، حتى إن قدم أروع الأعمال.
الاتهام بالسرقة ينال كبار الأدباء أكثر من سواهم، فالشاعر المتنبي كان عرضة الى الاتهام بمجرد ورود كلمة أو تناص أو فكرة في شطر أو بيت من قصائده، حتى يتصدى لها المتعصبون ويتهمونه بالسرقة، مع أن الشعراء يتعمدون -في الغالب- تضمين قصائدهم بأقوال وحكم قالها غيرهم، وقد يكون هذا التشابه مجرد توارد خواطر. وإذا كان الأدب العربي يتهم على نحو محدود بالسرقة من أقوال الحكماء أو من سبقهم من الشعراء، فإن اتساع دائرة التواصل المعرفي وتطور تكنلوجيا التواصل، جعلا الاتهامات تطال مختلف أنواع الفنون، بما فيها الأدب شعراً ورواية.
تنوع
الاتهامات بالسرقة تنوعت واتسعت باتساع مساحة التواصل والتلاقح الأدبي، وإذا كان شعراء العرب في العصرين الأموي والعباسي يتهمون بالسرقة من أقوال الفلاسفة والأمثال وقصص القرآن والأحاديث النبوية، فإن السرقات في العصر الحديث امتدت الى ذات الجنس الأدبي، إذ تقتبس الأفكار والمعاني من لغات وثقافات أخرى، فقد اتهم دعبل أبا تمام بالسرقة وقال عن شعره”ثلثا شعر أبي تمام سرقة، وثلثه صالح.”
وبالنظر لاتساع باب السرقات الأدبية، فقد اهتم بها العرب وكتبوا عنها، فالقاضي الجرجاني يحصر السرقات في المصطلحات الآتية: “السرقة، والغضب، والإغارة، والإلمام، والاختلاس، والملاحظة.” وهناك مايسميه المشترك، أي القول الذي لا ينسب إلى أحد، والمبتذل الذي ليس من أحد أولى به، والمختص الذي حازه المبتدي، سواء أكان معنى أم صياغة.
ويتفق القاضي الجرجاني مع رهط من النقاد على أن الشاعر الآخذ من زميله إذا ما أحسن عرضه أو أضاف إليه فإن ذلك يعد سرقة محمودة، لا مذمومة.
لكن مع تطور تقنيات الترجمة والتواصل، فإن العديد من نتاجات الأدب في الرواية والشعر، اتهمت بسرقة الفكرة والصورة، حتى أن ظهور بعض الروايات، التي لا تتوافق مع البيئة الاجتماعية العربية، جعلها في متناول سهام النقد كونها أعمالاً مسروقة، وإن لم يعين أصلها ومصدرها.ومع أن لا أحد بوسعه أن ينكر وجود السرقات الأدبية، لكن البعض أراد توظيفها لأسباب شخصية تنم عن الكراهية، وقد حدث هذا مع رواية أحمد سعداوي (فرانكشتاين في بغداد) الصادرة عن دار الجمل، التي هاجمها بعض المتربصين، واتهموا كاتبها بسرقة فكرتها بمجرد الإعلان عن فوزها بجائزة الرواية العربية، لمجرد أن الكاتب وظف اسم الشخصية الأسطورية فرانكشتاين، وهو شخصية خيالية لرواية الكاتبة الإنكليزية ماري، وأسقطها على بطل روايته (الشسمه) المستمدة وقائعها من الأحداث التي جرت في الشارع العراقي.
موقفان
وإذا كان النقاد العرب قد التمسوا للمبدعين مبررات، للتخفيف عن تهمة السرقة التي تمحو كل أثر لمنجزهم وجهدهم، فإن النقاد الآن وقفوا بتشدد ورفض لأي تبرير ومسوغ يقود المبدع للتعكز على إنجاز غيره من المبدعين، فهذا أحمد حمدان يضع السرقة الأدبية في مرتبة أحط وأشنع من السرقة المادية، ويقول: إن الأمانة العلمية في النقل والنشر والاستشهاد تقتضي أن ينسب القول إلى صاحبه، فمن هنا تكون الأفكار في مأمن من السرقة، لكن الزمن الذي نعيشه ربما لابد من أن تحفظ أفكارك في بنك حتى لا يسرقها أحد هؤلاء المنسوبين إلى المثقفين والمفكرين، إن الأمانة ترفع إنساناً بأفكاره لا بأفكار غيره، وبعلمه لا بنقله، وبقلمه لا بقلم غيره، وبأمانته لا بخيانته، وبمعرفته لقدره الحقيقي لا التباهي بما ليس عنده، النقاد قد أجازوا الاقتباس، فلمَ احتبس فكره وجف قلمه وتساقطت أوراق عقله ولم يجد ما يعبر به عن مكنونات نفسه في أن يأخذ بالقدر الذي لا يفرط في حق الغير، وهي نسبة ضئيلة لا يمكن أن تدخل في السرقة، فقد يستعصي على الكاتب أسلوبه فيقترض من غيره بما يعينه على إكمال فكرته.
في حين أن القاضي الجرجاني يقول: “ومتى أنصفت علمت أن أهل عصرنا، ثم العصر الذي يلينا، أقرب فيه الى المعذرة من المذمة.”ومع ذلك، فثمة اتفاق قد انعقد بين النقاد والأدباء على أن المعاني والدلالات والأفكار مطروحة أمام الجميع، وأن العبرة في التعبير اللفظي وباستخدامها في سياق النص، وفي ذلك ذهب نقاد غربيون مثل (هيرد) الذي يرى أن المعارف الإنسانية تراث شائع يمكن إخضاعه الى التجارب الخاصة، ولكل مبدع طريقته في التعبير عن الفكرة او المعنى.
والى هذا النحو مال العديد من الدراسات النقدية التي تناولت موضوعة السرقة الأدبية، إذ ترى أن المعاني والأفكار والتراث وما كتبه الأولون هي المادة الخام التي يستخدمها الأدباء، ومن الطبيعي أن نجد تشابهاً في الصور بين نتاج أديب وآخر، وحتى لا تختلط المعاني هنا فجمهرة النقاد لا تتحدث عن سرقات صارخة تنقل النصوص بمضمونها ولفظها، فهذه سرقة واضحة لا يتعرض إليها النقاد بالنقد والتحليل، وهو أمر مذموم لا يمكن للعقل والمنطق قبوله أو تبريره، أو وضعه في أي باب من أبواب النقد الأدبي.
صورة وأخرى
يميل النقاد الى التعامل مع مستوى النص بكامله، وعندما يلتفتون الى وجود تشابه بين صورة وأخرى وبين معنىً ومعنى آخر يمكن للأديب، شاعراً أو قاصّاً، أن يبني عليه عمله الإبداعي، فمسألة التأثر والتأثير في الآداب صرح قام عليه الأدب المقارن.
أسباب
ويرجع الدكتور محمد مصطفى هدارة أسباب شيوع السرقات في الشعر أكثر من باقي فنون الأدب الى أسباب عدة، من بينها أن الشعراء اعتادوا على العناية بالجزئيات دون رسم معالم شاملة للجمال الفني، وهذا ما ضيّق أمام الشاعر فرصة التجديد والابتكار.
وعلى أية حال فإن مذهب المتأخرين والمتقدمين، على السواء، هو إخضاع النتاج كله للحكم، وعدم الالتفات الى تشابه صورة في النص مع صورة في نص يسبقه، لأن من طبيعة الانسان أن يتأثر بما يقرأ ويسمع ويشاهد، وكل ذلك يقع ضمن مصادر المبدع التي يستلهم منها مضموناً ينبثق عنه إبداع جديد.