
مكتبة بيت الحكمة.. ذاكـــــرة تحتــــــرق ونهضـــــــة لا تعرف اليأس
إعداد / ريا الفلاحي
على ضفاف نهر دجلة، حيث تتعانق المياه مع التاريخ، يظل بيت الحكمة شامخاً برغم العواصف التي واجهها. إنه ليس مجرد مبنى يضم كتباً ودوريات، بل ذاكرة حية للمعرفة، وشاهد على عصور ازدهار وانكسار. ومن بين رفوفه، تتناثر قصص لا تحصى عن الكتب التي ضاعت، والأفكار التي عادت، والجهود المتواصلة لإعادة البناء.
ذاكرة مسروقة
يبرز بيت الحكمة كمنارة للعلم والفكر، وأبرز المؤسسات البحثية والثقافية في العالمين العربي والإسلامي، مجسداً تاريخ العراق المعرفي العريق. في هذا الصرح، حيث اجتمع العلماء والمفكرون لتأسيسه في العصر العباسي قبل أكثر من 12 قرناً، يتجدد الأمل ليعود مركزاً نابضاً للبحث العلمي في عصرنا الحديث، بالرغم من التحديات التي واجهها.
واحدة من الإضافات التي قام بها القائمون على البيت، تأسيسهم مكتبته عام 1996 م كخطوة طموح لإعادة إحياء الدور العلمي والفكري لهذا الصرح العريق. وعلى مدار سبع سنوات، تزايدت مقتنياتها من الكتب والمراجع، حتى بلغ عددها في عام 2003 أكثر من 12 ألف كتاب، إضافة إلى الدوريات والوثائق والخرائط النادرة. لكن بعد التاسع من نيسان، تحولت المكتبة إلى رماد، بعد سرقته وحرقه، ولم يتبقَّ فيها سوى 1803 كتب عربية و527 كتاباً أجنبياً، كأنها كانت محاولة لمسح ذاكرة مدينة بأكملها.
فرصة جديدة
وعلى الرغم من الفقدان، لم يتوقف العمل. فمع حلول عام 2004، بدأت المكتبة رحلة استعادة إرثها. لم تكن المهمة سهلة، لكن التبرعات والإهداءات كانتا شعلة الأمل، إذ قدم أكاديميون، مثل باسيل يوسف ورشيد الرفاعي وهشام الشاوي، مكتباتهم الخاصة، كما أسهمت مراكز بحثية عربية ودولية في إهداء الكتب. ومع مرور السنوات، استردت المكتبة عافيتها، ليصل عدد مقتنياتها اليوم إلى 21,977 كتاباً عربياً و2,147 كتاباً أجنبياً، إضافة إلى مئات البحوث والتقارير والدوريات.
حارسات المعرفة
المكتبة ليست مجرد أرقام وإحصائيات، بل هي روحٌ نابضة يحملها فريق من الموظفات اللواتي تحوّلن إلى حارسات للمعرفة. وسط رفوف الكتب، تعمل المديرة وكادرها المتخصص بشغف، يرشدن الباحثين، ويحرصن على أن يجد كل زائر ما يبحث عنه. ليست مجرد وظائف يومية، بل رسالة يعشنها بكل تفاصيلها.
تقول إحدى الموظفات: “بالرغم من كل ما مررنا به، لم نفقد الأمل. نحن هنا لمساعدة الباحثين، وجعل المكتبة أكثر حيوية وانفتاحاً على الجميع.”
نقلة رقمية
مع التطورات التكنولوجية، لم تبقَ المكتبة رهينة الأساليب التقليدية. فمنذ عام 2015، تم التحول إلى الفهرسة الإلكترونية، وإلغاء السجلات الورقية. كما جرى إدخال نظام (سمفوني) العالمي لإدارة المكتبات عام 2013. ولم يتوقف التطور هنا، إذ يجري العمل حالياً لإنشاء مكتبة إلكترونية ستكون متاحة للباحثين قريباً، بإدارة الدكتور ثائر حسن.
دعوة
في زمن أصبحت فيه المعرفة سلعة نادرة وسط زحام الأحداث، يظل بيت الحكمة ملاذاً لكل من يؤمن بقوة الكلمة وأثرها. وبين رفوفه، هناك عالم من الأفكار والكتب بانتظار من يستكشفه. والرسالة أن المكتبة ليست مكاناً للكتب فقط، بل هي فضاء للفكر وبيت لكل من يسعى للبحث والمعرفة.
فهل ستؤخذ خطوة نحوها؟