الشاعر ميثم الحربي: القارئ النقدي هو من يحوز على اهتمامنا

418

د. علاء حميد /

عاش الشاعر والكاتب ميثم الحربي تحولات ما بعد ٢٠٠٣ حتى اليوم، فكان شاهداً عليها وكاتباً بما ينتجه من نصوص شعرية. عمل الحربي على ألّا يقع في تصنيفات الثقافة العراقية في ما يخص الشعر وأجياله؛ فعمل بصمت؛ ولكنه في الوقت نفسه سعى لأن يكون حاضراً بنصه ومنجزه.
مجلة الشبكة التقته لتحاوره في تجربته الشعرية، وكيف يرى ما مرّ به المجتمع والثقافة في العراق عقب الزلزال الثقافي والاجتماعي بعد عام ٢٠٠٣، حوار ابتدأناه بسؤال:

* هل ترى أن الشعر ما زال منجز الثقافة العراقية بعد التغيير؟
– إذا ما أردْنا اقتراحَ تبويبٍ ما يستهدف تشريح مُنجز الثقافة العراقية؛ فنجد أنّ الشعر هو أحد تجلّيات أو تمثيلات المشغل العراقي العام؛ فإلى جانبه هناك فعاليات للفكر، والنقد، والسيرة الثقافية، والمُراجعات وما يتصل بهذا وذاك في إطار العمل المعرفي.
ومن أجل مُعاينة الكيفية التي أُنجز بها الأدب وقُرِئ؛ فقد وجدَت بعض الدراسات التي أرّخت لمكونات الفكر النقدي داخل العراق أنها محصورة في حزمة مسارات أهمها: سيادة النقد اللغوي، وغلبة الطابع السجالي، والنزوع إلى الاحتفاء بالاتجاهات الاجتماعية الصاعدة برافعة ثقافةٍ مُشبعة بالثورية، يُمكنُ تلمُّسُ ملامحها في عقدَي الأربعينيات والخمسينيات العراقِيّيْن.
وتأسيساً على ذلك؛ فإنّ الشعر سيظل يقدم حضوره رافداً من روافد الثقافة، قبل التغيير وبعده، ويبقى أمر اعتماده مُنجزاً موكولاً بمجيء قارئ (ألتوسيري)؛ إذ تجدر الإشارة إلى أنّ الفيلسوف الفرنسي، لوي ألتوسير (1918- 1990م) هو الذي استحدث مصطلح (استنطاق النص)؛ لوصف آليةٍ تتشكّل بها الذات البشرية، أي إنها تُشيَّد بوساطة بُنى أو نصوص؛ لذلك يستمر الشعر قديما وحديثا موضوعا للقراءة؛ ولكنّ القارئ النقدي هو من يحوز على اهتمامنا في ما يتوصل إليه من إضاءاتٍ واستنارات.

* بماذا تعلل هذا التزاحم الحاصل بعد ٢٠٠٣ بين الشعر والرواية؟
– تخبرنا تجارب التاريخ، ومحطاته أنّ التزاحم سمة حاصلة ومستمرة، وهذا التزاحم يستجلب معه الرداءة والجودة، التي تُفرّق بينهما لاحقاً قدرة الصانع الأدبي، على الكدّ الأصيل، وإخلاصه لمتطلبات العمل الجميل شعرا كان أو رواية.
وأظنُّ أنّ التزاحم حالياً، تعرضه أمامنا عوالم الإعلام الجديد (النيوميديا) المعروف بتحشُّد أجيال الانترنيت وسُكناهم في العالم الأزرق لوسائل الاتصال الاجتماعي. في المقابل فإننا طالما فهمنا أنّ الراهن الأدبي يرتبط بالحياة الثقافية، والسياسية، وأطوارها المتحرّكة كما تختزن مفردة الراهن شحنة الزمن، وتبذر لنا في كل مرّة مرحلة المحكّ، ومرحلة الصعب، وحضور الصراع.
وعلى هذا الأساس يتغذّى الراهنان العراقي والعربي من بنياته الاجتماعية الحافلة بحكايا المندثر والجديد، والمغايرة، والمشاكسة، والاتهام، ومواجهة سدنة الثوابت. ونكاد نجزم أنّ هواجس التحديث وقيمها نابعة من هذا المأزق أو المآزق المركّبة.
لقد هبّت رياح كثيرة وملوّنة على الفنون ومنها فن الشعر، وكانت الإفادة من ذلك تتمحور حول فكرة التخصيب بين الحاجات المحلّية لمجتمعاتنا وبين الرّجّات المَوْجيّة للتثاقف عبر الترجمات من اللغات المختلفة في ما يتعلق بالتأويل الجمالي للعالم.
* هل ترى أن صورة المثقف العراقي، قد تخطت شرط الانجاز الشعري وانفتحت على أنواع أخرى علمية وأدبية؟
– إنّ صورة المثقف العراقي، ونتيجة لتحولات البلاد العنيفة، تبدو اليوم مُصابة بكثير من الخدوش والكدمات والأحزان؛ فإننا بمُراجعة سريعة يمكننا التفريق بين مُثقفَيْن، الأول: مُثقف الدولة الاجتماعية مرحلة الملكية، والثاني: مُثقف الدولة السياسية، الذي بدأت صورته تتبلور منذ عام 1958م.
ففي ظل الدولة الاجتماعية لم تكن الدولة تمتلك سلطة فرض أيديولوجيا؛ لأنّ الأحزاب حينها كانت ذات صبغة اجتماعية وفي مرحلة المخاض، وهذا ما يجعل هامش الحرية والإبداع يتمتع بالسعة، في حين شهدت مراحل نضج الأحزاب على أسس آيديولوجية صوراً مريعة للانقسام، والاستعداء، وفرز الخنادق أسفرت عن إنتاج مدونات أدبية وغير أدبية يشتدّ فيها التراشق، والشتائم بالكلمات واللكمات، والذخيرة الحية!
وعلى صفحة انتقال هاتين الصورتين لك أنْ تترسّم تمثيلات التخطي لشرط الإنجاز الشعري، والانفتاح على أنماطٍ ثقافية مُغايرة!

* ما الذي تركته فيك سنوات الأزمات التي مر بها العراق بعد العام ٢٠٠٣؟
ونحنُ ننتقل من العام 2020 إلى العام 2021 كتبتُ مرةً تحت عنوان (مديح الوهن) هذا الكلام:
يتعرّض الإنسان، في أيامه، إلى (ظروف شديدة القسوة). والقسوةُ أو الصعوبة ليستا مجرد مفردَتَي قاموس؛ بل هما فِعل نُعانيهما ونُجرّبهما، ونخرجُ منهما وقد ارتسمت على ملامح نفوسنا علائم التغيُّر، وفي هذا أنشدَ، مرةً، أبو تمّام:
( ولم تُعْطني الأيّامُ نوْمًا مُسَكَّنـاً/ أَلَذُّ بهِ إلّا بنومٍ مُشرَّدِ )
وحينَ نعرفُ ذلك ونُقاسيه؛ سيكون لنا سرُّنا الأثير.. سرُّ الحُزن العميق الذي نظلُّ نسبحُ في أبديته في تألُّهٍ وبهاء. وهو حصّتُنا من دمعة الغسق الكبيرة. وهُنا عليك أن تحتفظ به لنفسك، أو ربما تودعه عند صديق يقومُ مقام نفسك؛ حتى لا تكون مُبذّراً بالوهن الذي يتملّكُ كيانك حدّ الدموع.
أقول هذا، وقد مرّت هذه السنة بصعاب كاثرت من خطوط الشيب، وراكمت من جبال الأسى والخسارة. وبين هذا وذاك؛ ومن أجل من أحببتهم وأحبوني، وأخلصوا بأنْ قلّدوني أكاليل الثقة المُطلقة؛ فإني سعيدٌ لسعادتهم بما أنجزت في ليل أيامي الجليل: أطروحة الدكتوراه، وكتاب الشعر.
وليس من قبيل البلاهة أن نتفاءل بما لا يبعث على أمل أو مسرّات؛ ولكنّنا قد نتشبّه بذلك الغصن من الحطب اليابس الذي تلتهمه النار فيتوجّع؛ لكي يُضيء فراديس السكون للمُرتحل في صحراء الليل والنهار، ويتخذ من درس الشقاء حكمة البسالة الفردية!

* أنجزت ديوانين “أقول آه فتكرر الكلاب نباحي” و”لا شيء سوى الطريق” كيف تعلّق على دلالة عنوان الديوانين؟
– في مجال الشعر لديَّ: (براءة المطر/ شعر/ 2009)، وإصدار صوتي مُشترك بعنوان (حملتُ كلامي ومضيت)، مع الديوانين المذكورين في السؤال.
وأنا أنجز ديواني المُعنون بــ (لا شيء سوى الطريق)، بتُّ صديقاً لمقادير حياتي الشخصية التي تتسم بالتجوال والسفر، والتنقل من بيت إلى آخر، وقد عثرتُ في قراءاتي ذات مرة على هذه العبارة الحزينة التي تقول: (أصعب التنقلات تَنقلُ بيت!)؛ وذلك لأنّ صورة هذا التجوال والسفر تبدو دائما قسرية ومُستجيبة لظروف الحياة القاسية والصعبة. لقد صادقتُ أزماتي بعد أن أتعبني التفكير في حلّها.
وليس في عنوان الديوان (أقول آه فتكرر الكلاب نباحي) من جديد، فقد درج الشعراء على اقتطاع جملة من نص وجعلها عنواناً، ولا أدري حقاً لماذا تعرّض هذا الديوان إلى هجوم من أغلب المتابعات التي تنكّرت بزيّ مقالات نقدية؟! ومع عنوان الديوان الثاني (لا شيء سوى الطريق) يستمر الكائن الشعري في الرحيل والاندهاش بمصادفات الطريق، سواء إن كانت مادية أو مجازية.

* أعددت أطروحة عن المفكر العراقي هادي العلوي، ودرستَ الجانب الأدبي في مشروعه، حدثنا عن هذا الموضوع؟
– حظي طيب الذكر هادي العلوي، باهتمام توزع بين حضورين: ثقافي، وأكاديمي بوصفه أحد تمثيلات الفكر العراقي الحديث والمُعاصر. وكانت أطروحة الدكتوراه تتعلق بمراجعة منجز علم عراقي طوّح به الشتات والتغرُّب عن بلده، وكان ذلك ثمناً لعصاميته ومبدئيته ومنحاه المُعارض للدكتاتورية. وقد درس العلوي البُنى الشعورية للتراث الذي يُمثل الأدب واحداً من أبرز مبانيه وخطاباته من جهة النشأة والتطور داخل إطار العلاقة بين الشفاهي والمكتوب، إذ تتموضع سلسلة الحلقات التي دار في نطاقها داخل ماركسية عَمَلية، أي إنها ليست نظرية؛ فهي تؤول عنده إلى شيوعية قَلبية قيمية ووجدانية. ومن هذا التجلي يدخل أو يتسلل حضور الأدب إلى مؤلفاته، ثم يتحرك في ضوء استعداد فكري وأخلاقي مرفوع إلى مصافّ العلمية والعملية إزاء الموقف الأكبر من التاريخ الذي يسعى فيه العلوي إلى استجلاء خطوط التنوير الكامنة فيه ومواصلتها.
وقد طبعت عملية استجلاء تلك الخطوط مؤلفات العلوي بطابع الانتقاء، والاستخلاص؛ فهو يأخذ من التراث ما يتلاءم وستراتيجية الكشف عن نقاط التمرّد السياسية، والاجتماعية، والأدبية المُذابة في جرار (الثقافة المُروحنة) المُخصّبة مع مُنجز الحكمة الصينية، والمُفضية إلى نمذجة حُلمه الرامي إلى إنتاج مشاعية شرقية.