“الطفّ”ِ تاجٌ خلَّد القصائدالحسينية

542

ذوالفقار يوسف /

نال الشاعر من واقعة الطف أسىً وتبرّماً، كما ناله محبو آل البيت (عليهم السلام) من غير الشعراء. أما نحن فنطلقه بأيدينا وصدورنا، بدموعنا وحسراتنا..
ولكن! كيف يُفرج عن المشاعر عندما تكون من قبل أدبائنا ومثقفينا؟ اولئك المحترفون في ترجمة ما تسمو أرواحهم من قدسية تجاه هذه الشخصية العظيمة وأيام استشهاده الأليمة، يكتب فتضوعُ الفاجعة كما يتضوع العطر من الزهور، يراقب قلبه بتأني الحكماء ليجد العواطف التي تليق بذلك المعصوم الثائر، ينزف الحروف لتكون الرسالة، ها هنا قد سطَّر البعض من مثقفينا مفهومهم الأدبي وخبراتهم التي لا تهرم في حب الإمام الشهيد في استطلاع لمجلة “الشبكة العراقية.”
جوازات مرور العاشق
“القصيدة الحسينية معبرٌ أو مطهرٌ يدخله الشعراء بكامل لغاتهم وهمومهم وطموحهم في تجاوز حاجز اللغات والاتجاهات والمدارس الفكرية واختلاف المشارب والمارب،” هذا ما تحدث به الشاعر والأديب (حميد المختار) ليكمل حديثه: “يبقى الحسين مدرسةً وفكراً ونهجاً عصياً على الكثير من الاقتراب منه، لكن الشعراء يحملون جوازات مرور العاشق الى وهج الولع بالمعشوق، لذلك تاتي القصيدة مليئة بالمعاني والعِبَر والشجن والحزن واللوعة، يرسم الشاعر النار والسيف والدم ويترك آثامه على عتبة الباب قبل الولوج ليصل الى مرحلة (الريسانس)، أي التطهير في المفهوم المسرحي، يتطهر من كل شائبة لوثت جسده ووعيه، ثم يقترب شيئاً فشيئاً من تلك النار المطهّرة ليقتحم فحيحها ولهيبها، وهناك تتساقط عليه شآبيب رحمة السماء مطراً مدراراً يطفئ النار ويوقد المخيلة ويفتح له ابواب القصيدة المنتظرة، الشعراء هم اول الافواه التي تصرخ وتندب: ياحسين، كما فعل الشاعر (بشر بن حذلم) حين امره الإمام السجاد أن يقول الشعر، فصاح حين دخل المدينة المنورة ناعياً الإمام الحسين:
يااهل يثرب لامقام لكم بها ..
قتل الحسين فأدمعي مدرار
هاهم الشعراء قادمون وهم يحملون مشاعل الشعر والفجيعة لينيروا ظلمات الارواح ويبعثوا الضوء في القلوب المحترقة حباً بالحسين ونهضته المباركة.”
الاستغراق الوجداني
الشاعر (ريسان الخزعلي) هو الآخر يصف هذا النمط من خلال إشراقات الروح في بحثها عن القدسية فيقول: “الحسين (ع) كرمز ثوري بطولي حُر، تشاغل به الشعر العراقي – الفصيح والشعبي- والعربي كثيراً على مستوى القصيدة والمسرحية، ولا نستطيع في مثل هذه الوقفة ان نُقدّم إحصاءً بالكم الشعري والمسرحي الذي كُتبَ فيه ولهُ وعنهُ، وبما انّ المُحدد هو روحيّة الشعراء في كتابة القصيدة الحسينية، فانّ هذه الروحية تمثّلت في الاستغراق الوجداني، والتمثّل الصافي لثورة الحسين بعيداً عن البُعد الطائفي.”
يضيف الخزعلي “انّ الحسين (ع) اصبح رمزاً عالياً، جعل أرواح الشعراء تتماهى بصوفيّة غير مسبوقة مع هذه الرمزية في الحسين (ع) كرمزٍ بطولي وكدلالة حرّية، وبحث عن حياة ارقى وانقى وابقى، وجدَ الشعرُ مركزه من الصدق والحقيقة في روحيّة الشعراء بعيداً عن المنفعة الدنيوية، وهكذا تسامت الارواح مع روح الحسين (ع) في محاولة صادقة لمسكِ جدوى الشعر بعد ان وعت هذه الجدوى القيمة الشعرية الكامنة في عقل وروح هذا الامام المتفرّد بالنوع، لقد كان الحسين (ع) شاعراً بدمهِ، منصتاً لاستجابة السماء، ومن كلِّ هذه الاشراقات، اشرقت روح الشعراء بقدرٍ او باخر، بعدَ ان اغتسلت بصوت الحسين (ع) الذي لا يخفت، هذا الصوت الذي كان الايقاع الجديد للشعراء، وقد تملّكهم روحاً وفكراً ومصيراً.”
نشيد الحزن والثورة
كما يصور الشاعر (وجدان عبد العزيز) الحقيقة قي قضية الحسين (عليه السلام) التي حدثت منذ آلاف السنين ويصفها بأنها بقيت مثارات إنسانية كونية، لانها ثورة ضد الظلم والطاغوت، ويستدرك بقوله “إن واقعة كربلاء كان لها اثرها الكبير والمؤثر في الوجدان الشعبي، ولاسيما أن هذه الواقعة كانت مليئة بالفصول الماساوية وزاخرة بالصور التراجيدية التي تثير في النفوس الاسى العميق، فالشعور بالحزن اكثر من مجرّد الشعور بالاسى فحسب، انه ردّ فعل انفعالي طبيعي ازاء فقدان كبير، كما قد يحدث الحزن عند وقوع تغيُّرات كبيرة في حياة الناس، وهذا ما أثارته ثورة الحسين وواقعتها على أرض كربلاء، حيث بدات تظهر معطياتها واثارها عبر السنين، فكانت هذه المشاعر هي الاساس في الرثاء الحسيني، الذي تخطى هذه الموثرات الى المطالبة بالثورة، تقول الدكتورة بنت الشاطئ في موسوعتها (ال النبي) (ص765): (ما احسب ان التاريخ قد عرف حزناً كهذا طال مداه حتى استمر بضعة عشر قرناً دون ان يفتر، فمراثي شهداء كربلاء هي الاناشيد التي يترنّم بها الشيعة في عيد حزنهم يوم عاشوراء في كل عام ويتحدّون الزمن ان يغيّبها في متاهة النسيان). إذاً كربلاء تعني الثورة، تعني الحرية، تعني مبادئ الخير والصلاح التي جسدها الامام الحسين (عليه السلام) على ثراها. وهكذا اصبحت كربلاء النشيد الحزين عند الشعراء، وبالتالي اصبحت الأنشودة الحماسية في التنديد بالظلم، وكل الثورات التي اعقبت ثورة الحسين استمدت من كربلاء هذا المعنى، فاصبحت كربلاء المثال والرمز الرافض للظلم، وكانت معين الشعراء في الإبداع الشعري الحزين الذي يحمل روح الثورة.”
اغترافٌ أبديّ
كما يبين الشاعر (هاشم العربي) أن منذ بداية الثورة الحسينية المباركة، والشعراء بين مغرقٍ بالرثاء والبكائيات المتحدثة عن فاجعة الحسين وعن ذبحه من القفا، عن سحق صدره الشريف بالخيول الأعوجية الضخمة، عن قطع خنصره من اجل سلب خاتمه، أو عن تسليب ثيابه، أو متحدثٍ عن السهم المثلث الذي نبت في قلبه الكبير، وآخر عن سلب عياله أو حرق خيامه وسبي نسائه أو بقية الفواجع العاشورائية الأخرى، من عطش الأطفال إلى ضربهم، إلى سحقهم تحت سنابك الخيل.”
ويختم العربي حديثه بوصف نوع آخر للشعراء فيقول: “هناك نوع ثانٍ من الشعراء، توجهوا إلى العِبَر والدروس المستقاة من هذه الثورة الإنسانية العظيمة، وكلا الطرفين كان له نصيب من الإبداع، سواء من رواد القصيدة المنبرية، أو قصيدة المنصة الإلقائية، وكل ذلك يظل قطرة من محيط امام جبروت تلك الثورة العظيمة التي ظلت منهلاً للشعراء يغترفون من ضيائها فجراً جديداً كل يوم.”