القاص والروائي خضير فليح الزيدي: أكتب لتفجير ظلمة الأشياء والمحرَّمات المسكوت عنها..
حوار: علي السومري – تصوير:بلال الحسناوي /
كاتب وقاص وروائي، ولد في مدينة الناصرية عام 1958، وأكمل فيها دراستيه الابتدائية والثانوية ليدخل، فيما بعد، كلية الفنون الجميلة في بغداد عام 1976، التي تخرج فيها عام 1981. نال جوائز عدة في مجال تخصصه الأدبي، منها جائزة الإبداع العراقي عن وزارة الثقافة لمرتين 2010/2017 عن روايتيه (خريطة كاسترو) و(فاليوم).
هاجر من مدينته الناصرية إلى بغداد التي استقر فيها منذ عام 2009 وحتى يومنا هذا.
يكتب الرواية والقصة والسرد غير المُجنَّس، وأصدر أكثر من عشرين كتاباً مطبوعاً من بينها روايته الأولى (شرنقة الجسد) الفائزة بجائزة تقديرية عام 1984، وعشرات الروايات المهمة.
إنه القاص والروائي خضير فليح الزيدي، الذي ارتأت “مجلة الشبكة” تسليط الضوء على مشروعه الثقافي في هذا الحوار…
* من يقرأ لكَ يجد أنك تهتم كثيراً بما لم يروَ حتى الآن، وهو “المسكوت عنه”، ما الذي أغراك في سبر أغوار هذه المنطقة؟
– أنا أعتقد أن مهمة الكاتب هي قريبة من مهمة الصحافة في جوانب كثيرة، إذ تلتقي الرواية الحديثة بالمهمة الاستقصائية البحثية للصحافة الحديثة، فيها الكثير من لذة الاكتشاف والفضول الإيجابي للبحث عن حقيقة محتوى المسكوت عنه، الذي تتسابق المهمتان لبلوغ هدف حقيقته. فعندما تسكت الصحافة، أو تعجز، تبدأ المهمة الأخرى للأدب بشكله العام في كشف المستور. الأدب الحديث ليس متعوياً، بل هو معرفي وباحث عن الحقائق المغمورة في القيعان.
من هذه المقدمة، وعلى المستوى الشخصي، كانت مهمتي في الكتابة تبنى على الاكتشاف والدهشة والفضول، كدهشة عين الطفل في مداعبة الأشياء الخطرة، المحرّم عليه الاقتراب منها. لذلك فضلت الابتعاد عما يغوي الكتّاب المعاصرين للكتابة الإمتاعية، وذهبت إلى الأماكن المجهولة، تلك التي أجد فيها لذة الكتابة المنتجة التي ترضي طموحي ككاتب.
تبدأ المهمة فيها من نبش تاريخها، ثم استنطاق شخوصها بأسلوب وجدته مناسباً يحمل المسارين الصحفي والسردي معاً. المسكوت عنه في الحياة هو دراما ملحمية متكاملة، وهو أقل منه في الأدب، يتحاشاه الكاتب لخطورة المنزلق السردي، إذ أن معظم كتّابنا يفكرون بطريقة إقناع النقاد والنخب الثقافية أكثر من القارئ الشعبي البسيط. الكتابة بالنسبة لي هي تفجير ظلمة الأشياء في بوتقة المحرمات والمسكوت عنه.
سجلُّ الأسى
* في رواياتك وكتبك السردية، ثمة اهتمام واضح بالأمكنة، حتى يمكن عدّها البطل الأول في أعمالك، ما سر هذه العلاقة؟
– إن سحر “المكان بمكينه”، الأمكنة البغدادية فيها تاريخ طويل من الأسى، تحمل رائحتها التي تجذبني للوقوف على مناطق العتمة فيها، المكان التاريخي لا يحمل سجل الدراما في شخوصه، بل في الأثر المتروك والشاخص قبل الإنسان. الأرض وجدت قبل آدم، لذلك فإن المكان هو من يضفي صفاته وأنماط العيش والسلوك والمزاج على المقيم فيه.
المأساة عندما تحكي بسخرية
* في كتابك الأخير (مملكة الضحك)، ركزت على عوالم المهمشين السحيقة في أزقة بغداد القديمة، هل كنت تعده كمبحثِ أنثروبولجي في متغيرات مجتمع هذه المدينة، أم ككتاب ساخر؟
– (مملكة الضحك) هو بمثابة رحلة المشي على القدمين، والمشي هو السعادة الحقيقية في لذة المكتشف مع تنامي عناصر الصدمات المتتالية. الكتاب يوثق المشي من باب المعظم إلى الباب الشرقي، بأسلوب ساخر/ متهكم/ كاشف. في هذا الطريق “5 كم” تكتشف أن الحياة العراقية الحقيقية والمزاج الذي يتحكم بها هما هنا، وليس في المولات أو في الأماكن الناعمة التي تحاكي التحضر بمظهرية زائفة. للأسف العنف المجتمعي أكبر آفة، وقد تحول إلى ظاهرة خطرة، فالمجتمع تحول من طور إلى آخر، وثمة طور جديد مقبل علينا هو الانتقال من العنف الشديد والقاسي إلى مرحلة التوحش. نحن الضمائر الحية المتبقية على قيد البلد، فئة قليلة تحارب بسيوف من قصب، وربما سيأتي اليوم الذي نعلن هزيمتنا ونهرب خارج البلد. هذا النهج المتوحش المتنامي هو مدروس بدقة لتهشيم الشخصية العراقية وتخريب الأمكنة التي قد نغني على خرائبها يوماً ما، ونحن أساتذة في الغناء على خرائبنا. اكتشفت في رحلتي، من باب المعظم إلى مملكة الباب الشرقي، عالماً غاطساً من السخرية التي أسميتها بمملكة “الهههاي” التي تعمل بجد لتحويل المأساة إلى نكات يومية عابرة للحدود. الباب الشرقي هو أكبر مصنع في العالم لصناعة النكات! هي نكات تعلن عن موت مؤلفها أو تسجل بمجهولية المالك، الحياة الضاحكة في الباب الشرقي هي لون العراق الباكي على نفسه لشدة المأساة.
السردية العراقية الجديدة
* كيف ترى السردية العراقية اليوم؟ وهل تتفق مع من يقول بانحسار الشعر لصالح الرواية؟
– السردية العراقية ما بعد 2003 أحدثت نهضة عرجاء. لم تتجاوز الإرث الكلاسيكي في السردية العراقية في “الماقبل”، ولم تنطلق أو تفجر ثورة الحداثة العراقية السردية، ما زالت في منتصف الطريق. نعم، هناك عزوف عن قراءة الشعر، وأنا أرثي حال الشعرية العالمية، عليها أن تحدث ثورتها المؤجلة منذ منتصف الستينيات حتى يومنا هذا وهي تعلن أن ثورة الشعر مقبلة. بالمقابل فإن ثمة عصفاً مدوياً في المطبوع السردي، لكنه من دون محتوى حداثي حقيقي. نعم، هناك التماعات مهمة مكتوبة بدقة وذكاء معتمدة على الإرث السردي العالمي، والسردية العراقية اليوم هي في مقدمة ما ينتج عربياً، لكنها بعيدة عن الحداثة، فهي ما زالت تداعب المدارس الكلاسيكية في الكتابة وتحاكي الحداثة من خلف الزجاج، وهذا يضر بها كثيراً. الأجيال الجديدة التي تكتب الرواية مثلاً، تعتمد عناصر التقليد والمحاكاة ولا تعتمد الخلق الإبداعي، على الرغم من أن البلد من أكثر البلدان التي تنتج دراما الظواهر الحياتية والملحمية التي هي مادة خام لتنتج الرواية والقصة أو السرد السائب.
أرشيف بلغة غاضبة
* (عزيزي المُندس) عنوان كتابك القصصي عن التظاهرات وثورة تشرين وأحداثها، هل هي محاولة منكَ لتوثيق ما حدث أم أنها استذكار وتأبين لأبطالها؟
– (عزيزي المُندس) كتاب قصصي كُتب بسخونة بالغة وانفعال واضح، وهو أرشيف تاريخي غاية في الدقة، ذلك الانفعال الذي لا يمكن أن يكون مضراً بالسرد كما يشاع سابقاً عنه. هو محاولة لكتابة قصص البطولة الشعبية بطريقة أقرب إلى نفوس الناس البسطاء والشباب المتطلع إلى المستقبل. لقد عشت مع الشباب لأشهر في ساحاتهم وأماكن نومهم، كنت أرصد بحذر ولهفة لحظات خوفهم، أو اندفاعهم عندما يداهمهم الخطر، أرصد الأمهات أو الآباء من خلفهم، التقط الحكايات التي لا تصلها عين الكاميرا أو الفيديو، حكايات عابرة التقطتها من الأفواه واختزنتها فتحولت إلى قصص عن عالم الثورة الشعبية التي كادت أن تنتصر لولا العشوائية وقسوة السلطة. فتشرين هو الجرح النرجسي في سردية الاحتجاج على مر طول التاريخ وسجله المعاصر.
– على المستوى الشخصي أعترف أن الفيديوهات المسربة أفسدت أو أضرّت بالمسار القصصي وإنتاج القصص وضمور ألقها وخفوت وهجها، فكان علينا – ككتّاب – أن نغير في نسيج القصص ليواكب حركة الفيديو بطريقة جاذبة، وتلك مهمة عسيرة على الكاتب الكلاسيكي مواكبتها بذكاء وعين حاذقة، وهنا تبرز ضرورة الحداثة في الكتابة السردية. المجتمع اليوم يستمتع كثيرا بأفضلية عنصر المشاهدة بديلاً عن عنصر قراءة المحتوى. الفيديو وثيقة دامغة أكبر وأعظم من كل قصة، لكن القصص، أو الأدب عموماً، تكشف دفق المشاعر والرؤى الغامضة، لذلك فإن على القصص أن تغير من نسيجها وطبيعتها البنائية والتكوينية لتواكب حركة العصر السريعة، لذلك كنت أبحث عن قصص الشباب تلك، التي لا يواكبها التصوير الفوتغرافي أو الفيديوي، أو تلك المهملة التي أتلفها دخان الإطلاقات الغازية السامة، وهي مهمة عسيرة، لكنها أيضاً في الجانب الأدبي فيها لذة التسجيلية والاكتشاف. لذلك جاءت قصص (عزيزي المُندس) كحكايات فيها مساحة من الخيال والمتخيل محدودة مقابل المشاعر والعواطف الفطرية، فثورة الشباب فاقت ما ينتجه كل خيال لأعظم قاص أو مؤرشف أدبي. فبعد ثلاثين أو أربعين سنة وتاريخياً ستكون الحاجة مهمة للاطلاع عليها وتقييمها بأنصاف ورويّة.
دعوة مهمة
* هل أسهمت الجوائز التي تمنح للروايات المهمة والمميزة مثل (البوكر) و(كتارا)، في دعم الرواية العربية وانتشارها؟
– الجوائز الكبرى -وعندما أقول (كبرى) لأنها كبيرة بمبالغها السخية الممنوحة إلى الكتّاب- هي جوائز فيها رائحة السياسة والتركيز على المناطقية المقيتة، أو ذات البعد الجغرافي الدوري للجوائز، وهي في الجانب الآخر ضرورية لانتشار المنتج الأدبي إعلامياً وترويجياً، وتنتج طفرة في المبيعات من خلال الترشيحات، والكاتب بحاجة إلى مثل هذا الانتشار. الجوائز تمنح بيد وتأخذ باليد الأخرى، مع ذلك، أنا شخصياً جربت الترشيح أكثر من مرة، حتى اقتنعت أخيراً بدينامية السياسة الخفية التي تقف خلف إدارة كل جائزة. أتمنى على العراق، وهو بلد يستطيع أن يختلق جوائز بمستوى الجوائز الكبرى على المستوى المادي، كي يتنافس الكتّاب بشرف الفروسية، من دون التوجه لطرق أبواب الجوائز ذات الأبعاد الخفية. في إحدى الجوائز العربية يضعون حقلاً لرواية البلد المانح وعدد المشاركين لا يتعدى الثلاثة، أي بمعنى أنهم كلهم في مراتب الفوز، بينما بقية البلدان تصل المنافسة فيها إلى ألف مخطوطة، فتكون المنافسة ضربة حظ ليس إلا.. لا أعتقد أن أية لجنة حكم تستطيع فرز هذا الركام الأدبي بإنصاف حقيقي، فالمحكِّم يخضع إلى المزاج والذائقة العبثية في التحكيم.
منديل الماركسي
* ما جديد (الزيدي)، وهل نترقب إصداراً جديداً؟
– أنهيت كتابي القصصي الجديد وسيطبع في 2022 تحت عنوان (منديل الماركسي)، رحلة عميقة في أعماق الماركسي العائد إلى بلده بعد 2003، ولديّ رواية ما زلت أعمل عليها تحت عنوان (بنات البيرقدار)، كما أعد مشروعاً بحثياً / سردياً عن الكُتّاب المنتحرين، سواء بشكل مباشر، أو الانتحار بالخمرة، أو الموت بالمفخخات، أو بغيرها تحت عنوان (فهرست الضائعين).