الكاتب والأكاديمي د.علي المرهج: حماية السلطة للفلسفة حُكم عليها بالإعدام!

750

حوار: علي السومري – تصوير: يوسف مهدي/

كاتب وأكاديمي يعيش وفق فلسفته الخاصة، الفلسفة التي درَسها لسنوات طوال ويدرّسها اليوم في الجامعات العراقية، أستاذ يؤمن بان الاهتمام بهذا الدرس يمكنه تغيير المجتمعات نحو الافضل عبر التنوير وخلق بيئة فكرية يمكنها تقبل الاخر وآرائه المختلفة بشان الحياة وقيمها.
إنه الأستاذ الدكتور علي عبد الهادي المرهج، أستاذ ورئيس قسم الفلسفة في الجامعة المستنصرية، المولود في قلعة سكر بمحافظة الناصرية العام 1970، والحاصل على شهادة البكالوريوس في الفلسفة من جامعة بغداد، والماجستير في الفلسفة المعاصرة، وشهادة الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية والفكر العربي من الجامعة المستنصرية.
الذي كان لنا معه هذا الحوار….

*ما الفلسفة؟ وكيف يمكن تبسيط مفاهيمها للقارئ العادي، لا المختص؟
– بصيغة مبسطة، كما رغبت صديقي، الفلسفة هي رؤية عقلانية وتساؤل حول أصل الوجود والحياة، من دون تسليم بمقولات مُسبّقة تفرضها العقائد والأديان القائمة على الإيمان وتفضيله على التعقل.
ما يُميز الفلاسفة أنهم مغامرون يسألون أسئلة تستفز نظم الطبيعة والأعراف الاجتماعية ولا يخشون لومة لائم.
وميزتهم أنهم يُشككون في معرفاتهم ومسلماتهم ولا يعدونها حقائق، بقدر ما يحسبونها طرقاً تنفع في الوصول إلى الحقيقة، أو الاقتراب منها.
لا يغرنَّك طرح فيلسوف ما، لأن طرحه مُجرد رؤية اجتهد فيها، فإن أصاب فله أجر، وإن أخطأ فله أجر، أدعوك لتفعيل عقلك.
الفلاسفة يسعون ويجتهدون كي يكونوا رسلاً لإدراك الحقيقة، لكنهم لا يدّعون امتلاكها لأنهم بشر، وكل ابن أنثى يُخطئ..!
الفلسفة تفسير فيه سعي لتغيير -بحسب الماركسية- وهي، كما يرى فلاسفة التحليل: “توضيح للأفكار وفك لمعاني المفاهيم”، ولا تظنوا أن في الفلسفة حلاً لكل مشكل، بل هي سؤال عن المشكل ومحاولة لفهمه.
أقول لكم إن ما يُميز الفلسفة أن أصحابها يُجيدون “استفزاز العقل”، فهم دعاة التفكير من أجل أن لا يتوقف العقل عن مشاكسة الوجود والحياة، إنها تفكير من أجل التفكير، وتفكير من أجل إعادة بناء وعي العقل بذاته أولاً وبمحيطه أو بالوجود ثانياً.

نظام الوصاية
*يشاع أن هناك قصدية واضحة في تقليل أهمية درس الفلسفة في مجتمعاتنا، ما رأيك؟
-لا يُشاع، وإنما هي الحقيقة! لأن مجتمعاتنا اعتادت العيش وفق (نظام الوصاية) والاعتماد على آخر نظنه الأفضل والأعلم ليُفسر لنا ما نحن عليه وما ينبغي أن نكون عليه.
نحن مجتمعات نُبيح للمقدس، من دون تأكد من مقدار ما يستحقه من تقديس، ليكون وصياً على حياتنا واختيار أسلوب العيش لنا وطرق التفكير.
المشكلة التي تواجهها الفلسفة هي تغافل الدولة عنها وإهمالها لدورها، بل إنها تعدها خطراً عليها، ما بعده خطر. وما يُسمونه “حماية الدولة” للفلسفة هو في الواقع حُكم على الفلسفة بالإعدام، لأن الفيلسوف سيكون حينئذ عبداً من عبيد الدولة (الدولة هنا بمعنى السلطة)، يأتمر بأمرها، ويُفكر لحسابها وعلى النحو الذي تهواه، فيجعل الدولة فوق الحق، أي يقضي على كل فلسفة. كما أن الدولة مصدر ثبات، وأبغض شيء لديها التغيير والصيرورة، أي أنها ستكون خصماً لطبيعة الفلسفة نفسها وجوهرها الحقيقي، وهو الخلق المُستمر والجِدّة الدائمة في النظر إلى الوجود، إن كانت فلسفة حيَة حقاً.. وكل فلسفة تُحمى من الدولة إنما هي الفلسفة الوضيعة، كي تُمكنها الدولة من القضاء على الفلسفة المُمتازة، لهذا يقول نيتشه: “إن الفيلسوف الذي يرضى لنفسه أن يكون فيلسوف الدولة يجب أن يرضى لنفسه أيضاً أن يُنظر إليه باعتبار أنه أنكر على نفسه حق البحث عن الحقيقة كُلها بكل ما تحتوي عليه من أسرار.” كما أن الدولة إذا جعلت لنفسها فلسفة رسمية، فسيكون لها وحدها الحق في اختيارها، أي أن الدولة ستضع نفسها موضع الحاكم الذي يستطيع أن يُميز بين الفلسفة الجيدة والفلسفة الرديئة.

مجموعة مفكرين
*هل يمكننا القول بوجود فلاسفة عرب أثّروا في مجتمعاتهم؟
-إن كُنت تقصد في تراثنا العربي والإسلامي، أقول: نعم، هناك فلاسفة أثروا في حياة الكثيرين منا، وكتب التاريخ تذكرهم، ونحن نتفاخر بهم لما كان لهم من تأثير في تغيير نمط التفكير العربي من تسييد لنمط التفكير الإيماني ليحضر التفكير الفلسفي العقلاني موازياً له، ويهدد بنيته التسليمية ليبني فكراً نقدياً تأثر بفكر (الآخر) ودافع عن دوره في صناعة العلم والحوار الحضاريين.
لكن إن كنت تقصد في ثقافتنا العربية الحديثة والمعاصرة، فقد وجدت مجموعة من المفكرين، على ما في مفهوم المفكر من تعميم وتعمية وغموض، ولكن نقصد أصحاب المشاريع الفكرية الذين حاولوا تقديم رؤى جديدة لفهم مشكل التخلف والعمل على النهوض بالفكر العربي الحديث، ليكشف -فيما بعد- بعض المفكرين العرب المعاصرين عن “إشكالية” متعالقة مع مشكل التخلف، ألا وهي إشكالية العلاقة بين “التراث والحداثة” ليُنتجوا لنا فكراً نهضوياً جديداً، هو أكثر قرباً وارتباطاً بالسياسة والآيديولوجيا منه إلى الفلسفة بوصفها فكراً كونياً لا يفقد خصوصيته.
كل المشاريع الفكرية العربية المعاصرة تحكمها رؤية آيديولوجية هي مقدار الارتباط والابتعاد عن “الآخر” =”االغرب”، لذلك لم تبحث غالبيتها في الكشف عن عقم التفكير والتخلف عندنا إلا وكان “الآخر” حاضراً في المدح أو القدح.

تقليد محمود
*قدمت برنامجاً تلفزيونياً في قناة العراقية عن الفلسفة، ما الرسائل التي حاولت تضمينها للمشاهد العراقي؟
-نعم، قدمت برنامج (خلي نتفلسف شوية) واخترت عنوانه بلهجة شعبية كان القصد من ورائها تقويض الفهم السائد عن الفلسفة، على أنها فكرٌ مُعقد، وحاولت أن أبين للمشُاهد العراقي -على وجه الخصوص- أهمية الفلسفة في تعريفه بواقعه ومشكلاته وتحديات الواقع المُعاش، كان البرنامج محاولة لتبسيط الفلسفة وتيسير فهمهما للمثقف العادي والإنسان البسيط الذي يسمع عنها ولا يعرف مضامينها.

*كيف تقيِّم -أكاديمياً- إقبال الطلبة على اختيار قسم الفلسفة في جامعاتنا؟
-لا إقبال عليها، إلا لدى القلة القليلة من الطلبة الذين عرفوا أهميتها، فكان الأهم منهم هم الذين جاءوا لدراستها راغبين، ولا سيما في الدراسات المسائية من الذين درسوا اختصاصات أخرى، أو تركوا الدراسة، لكنهم قُراء للفكر والثقافة عرفوا أهمية الفلسفة.
ما يُميز طلبة الفلسفة، حتى المقبولين فيها وفق القبول المركزي، أنهم بعد دراستها نجدهم أكثر تعلقاً بها، ولا سيما في المراحل المتقدمة، لأنهم يكتشفون أن الفلسفة تختط طريقاً لهم خارج توصيفات التبعية في بناء الخطاب، وبرغم إعجاب بعض الفلاسفة بفلسفة أرسطو بوصفهم طلبة له، ومن ثم تقليدها، إلا أنه تقليد محمود، ولماذا محمود؟ لأنه تقليد لعقل نقدي يكشف عن معرفة جديدة وعلوم حديثة بالقياس إلى عصرها، فأن تُقلد الفلاسفة وتسير على نهجهم العقلاني، فذلك يعني أنك تسعى لبناء ذاتك وعقلك خارج توهمات الآيديولوجيا الموروثة ودوغمائيتها المعروفة.
على الرغم من المآخذ على التقليد في الفلسفة، لكنه لا يشبه التقليد في الفقه ولا التقليد في التدين الأعمى، لأن التقليد في الفلسفة يستدعي إعمال العقل وتفعيل حضوره في الأوساط الدينية، المسيحية والإسلامية.
المشكلة الأخرى التي تحد من رغبة الطلبة في دراسة الفلسفة، هي عدم توفر فرص عمل بعد التخرج، والأغرب من ذلك أن وزارة التربية لا توظف خريج الفلسفة رغم وجود مادة لها في الإعدادية، وتجعل مدرساً غير مختص، ولا يفقه أهميتها، وبعضهم يستخف بها، ويدرسها!!
لكن لأختم لك بقول متفائل بسؤال اجترحته أنا: هل يوجد طلبة وأساتذة واعدون في الفلسفة في العراق لو اتسعت لهم مساحة الحرية والتعبير؟ أقول لك: نعم، وقد يتجاوزون جيلنا وجيل من سبقنا.