المكان .. هل مازال حاضراً في النصوص الإبداعية؟

867

 د.عادل الميالي/

المكان هو القاطرة التي تنتقل في رحم النص الإبداعي, إذ يستثمر حضوره بوصفه منظوراً ذا تأثير فعال في تثوير النص, ذلك أن تمظهرات المكان جزء أساس من البنية الفنية كمعطى إبداعي .

فالمكان ليس حيزاً جغرافياً محدد الأبعاد, إنه ذاكرة لكل التجارب الحياتية, للحكايات, للملامح, للأفراح, وللأحزان, وهو البوصلة المرشدة لمعرفة بيئات الشعوب, والبعد اللامحدود في عقلية ونفس كل مبدع.

في هذه المساحة نطرح سؤالاً: هل مازال المكان حاضراً بفاعلية في النصوص الإبداعية؟ وعبر التعرف على آراء الكتاب والمثقفين, كان هذا الاستطلاع:

فضاء النص

بداية جولتي الاستطلاعية كانت مع د. رجاء آل بهيش، متخصص في مجال السيمياء, حيث يرى أن المكان في سيرورته الزمنية ليس إلا بعداً للواقع, إن لم يكن هو الفاعل والمهيمن في صياغة الأحداث, وهو ماذهبت اليه مدرسة (الحوليات) الفرنسية, وتجلى ذلك في دراسة (بروديل) الشهيرة عن البحر المتوسط كفاعل تاريخي,حيث المكان هو صانع الأحداث والمتحكم بها, مثلما هو يختار للبشر أقدارهم, وهم يظنون أنه الباعث الوحيد في مسار التاريخ, ومن ثم فإنه يتجاوز السيرورة الزمنية ليكون هو الزمن نفسه(زمكانية), لذا لاريب أن يكون المكان في النصوص الإبداعية, فضاء النص عبر سرديته, ومرجعيته سواء أكان مكاناً أليفاً أم معادياً أم فنطازياً تم بناؤه عبر مكان مقيم في ذاكرة المبدع, او تناصّاً لفضاءات عدة تشكل عالماً خاصاً به, مثلما هو حادث في نصوص الواقعية السحرية, وكذلك في النص الشعري. ولعل قصائد السياب أنموذج لتواجد المكان في هذا النص, إذ تميّز السياب عن الآخرين بهذه (الرؤية العينية) للمكان, الذي دخل دائرة الرمز كما هو الحال مع جيكور وبويب (نهره الحزين كالمطر). والأدب العالمي حافل بأماكن صارت رموزاً في المخيال الأدبي والشعبي على حد سواء.

إن هناك سؤالاً يطرح باستمرار عما يتعلق بمرجعية المكان: هل هي مرجعية الذاكرة أم مرجعية النص أم كلتاهما, وعملية الفصل بينهما, وحتى وإن كانت لأغراض البحث الأكاديمي او النقد الأدبي, تبدو عملية صعبة جداً, لأن المكان إن كان هو صانع التاريخ, فمن المؤكد أنه المهيمن على النص، وحتى إن غاب عنه في وضوحيته فإن اللامكان بحد ذاته هو مكان آخر له عوالمه الخاصة, إن لم نقل أن الوجود بأكمله ليس إلا مكاناً واحداً, وأمكنة متعددة تنتمي اليه, او تسعى لمغادرته لبناء عالم آخر مغاير عبر المغامرة السردية.

بؤرة الإبداع

يشير د. محمد رضا مبارك، متخصص في مجال اللسانيات, الى أن المكان يحضر في السرد أكثر من حضوره في الشعر, غير أن حضور المكان في الرواية عادة مايكون واضحاً ومسيطراً. وفي النقد السيميائي, ينظر الى المكان نظرة متمعنة, فهو يظهر في العمل الروائي ركناً مهماً من أركان هذا العمل لايمكن فصله عن بقية الأركان.

إن التوظيف الدلالي للمكان, يسير في ثلاثة اتجاهات, هي الربط بين وحدات النص, والتركيز على عنصر الاثارة, وتفسير رؤية الروائي للكون بصفة عامة, وبيئته بصفة خاصة, فيخلق لعمله السردي شيئاً من الواقعية, وبهذه الأبعاد الدلالية التي يخلقها المكان في العمل السردي تتحقق جمالية المكان في الرواية.

إن الزمان هو المتحول والمكان هو الثابت.. وبين الثبات والتحول تتحقق جدلية الأشياء .. فهل المكان ثابت في الرواية.. أليس هو المتحول دوماً, وكأنه المتساوق مع الزمان في تحوله.. إن هذا تابع لطبيعة الرواية, وطبيعتها المتخيلة…

المتخيل يقع في المكان تحديداً, عند ذلك, فإن هذا المكان يشكل بؤرة الإبداع الحقيقي في كل عمل, لاسيما الأعمال الروائية.

عنصر أساس

تذهب د. إسراء حسين، تخصص لغة عربية, الى أن المكان يشكل حيزاً لإثبات الوجود من ناحية, ووعاء يضم كل الأفكار والسلوكيات والثقافات والهواجس النفسية, اذ يندرج في العمل الإبداعي تحت فاعلية الخيال. فالمبدع سواء أكان شاعراً أم ناثراً, يحاول أن يخلق من الواقع أماكن ذات طبيعة جديدة حافلة بالرؤى والمجازات, ليكون بذلك عنصراً أساسياً في بناء العمل الإبداعي وسمة من سماته الجمالية.

وفي العمل الروائي لم يعد المكان عنصراً مهماً من عناصر الفضاء الروائي فحسب, فقد أسهم في خلق المعنى داخل الرواية, اذ لايكون دائما تابعاً او سلبياً بل أحياناً يمكن للروائي أن يحول عنصر المكان الى أداة تعبير عن موقف الأبطال من العالم, كما يعد مركزاً للحدث اذ يمنح الهوية للشخصيات, ويحدد انتماءها الطبقي وذلك لاستحالة بناء الحدث والشخصية في مكان لاملامح له, فضلاً عن إيصال الإحساس بمغزى الحياة.
إذن المكان ليس عنصراً زائداً في الرواية, فهو يتخذ أشكالاً ويتضمن معاني عديدة, بل أنه قد يكون في بعض الأحيان الهدف من وجود العمل.

عنصر فاعل

الروائي عدنان الحيدري يقول: كثيراً ماشغلتني وأثارت انتباهي ثيمة المكان ووظيفته الخلاقة داخل النص الأدبي شعراً كان أم سرداً, بوصفها من العناصر الفاعلة في أي نص مكتوب, والرواية تحديداً, كونها تأخذ مساحة واسعة داخل بنية النص وفضاءاته, وأعتقد جازماً أن الدراسات الحديثة، على ندرتها, بدأت تفرد حيزاً مهماً له بوصفه عنصراً حيوياً وكاشفاً أنساقاً مشتركة بين الشخصية الروائية وعلائقها مع المكان.. وأيضا هي علائق جوهرية بين الراوي وقارئه, هي عملية أخذ وعطاء وحركة تبادلية بين الاثنين, ولايتوقف هذا الحراك بينهما مادامت الأحداث متواشجة ومتداخلة بعضها ببعض, وبهذا يعكس المكان محمولاته وطابعه الخاص ليعكسه على الشخوص المتحركة أو المتازمة كاشفاً عن أعماقها وضعها النفسي والاجتماعي .

لذا أجد أن المكان ليس ديكوراً عابراً خلف شاشة النص, أو عنصراً فائضاً عن حاجة العمل, فهو العمود الفقري لأي عمل روائي, إذ أن له أهميته وحضوره الدائمين في أي عمل أدبي ناجح ولافت للنظر, كونه يتسع لكل الحوادث والاحتمالات.. وقد يكون هو الهدف من وجود العمل الروائي.