بين روايتي “الصخب والعنف” و”ظلال على النافذة”.. الأسلوب والعوالم المشتركة ..

371

د. زهير ياسين شليبة/
بالنسبة لرواية (الصخب والعنف) للأميركي وليم فوكنر، فقد استعرتها من غائب طعمة فرمان، وتحدثت معه بعد قراءتها، فإنه أكّد عدم إعجابه بأعمال فوكنر، لكنه لا ينكر رغبتَه في الاطلاع على أسلوبه، وتأثرَه (ليس بالضرورة المباشر) بتكنيكه، كما يبدو ذلك واضحاً من الشكل البوليفوني الذي حاول اعتماده في بناء روايته الثانية (خمسه أصوات).
يُعد الروائي المصري فتحي غانم أول من استخدم هذا الشكل في روايته (الرجل الذي فقد ظله)، ثم حذا حذوه فرمان، ومن بعدهما ظهرت رواية (شرق المتوسط) لعبد الرحمن منيف، و(البحث عن وليد مسعود) و(السفينة) لجبرا إبراهيم جبرا، و(أصوات) لسليمان فياض، و(الرجع البعيد) لفؤاد التكرلي. ولا يعني هذا أن كل هذه الروايات متشابهة في بنيتها وشكلها الروائي مع (الصخب والعنف) تشابهاً كبيراً أو متأثرة بها تأثراً مباشراً، علما بأن هذه الفكرة كانت متداولة في صحافة السبعينيات الأدبية العربية.
أما من ناحية (الأجواء) والأسلوب، فنلاحظ أن روايات جبرا إبراهيم جبرا و(فؤاد التكرلي إلى حدما) أكثر (التقاءً) مع عالم فوكنر بسبب توجهاتهما الأدبية واهتماماتهما باللغة والعالم الداخلي للإنسان.
إن كلّ ما يقرأه المبدع يبقى في عقله الباطن وإدراكه الداخلي ويمكن أن يستوحيه في أعماله بدون وعيه. إنا أعرف أن غائباً لم يكن يميل إلى هذا النوع من الروايات المعقدة، أما قراءتها بالإنجليزية فلا بد من أنها ستكون أصعب. وأعلم أيضاً أنه كان يبحث عن مضامين عراقية جديدة بسبب (نضوب) ذاكرته بعد إصداره أربع روايات مكرسة لتجاربه الشخصية، وسمعتُ أنه اعتمد في ذلك على بعض أصدقائه المقربين، وسألته عن هذا الأمر، فأجابني مبتسماً كعادته بأنه يستمع، لكنه يدقق في كل شيء.
موضوعة اجتماعية
(ظلال على النافذة) مكرّسة لموضوعة اجتماعية: مشكلة عائلة عراقية صغيرة بأسلوب واقعي ممزوج بأليغوريا بسيطة، وعظيّة، كما يبدو من أسماء أبطالها التي تدل على حالها وطبيعتها ومكانها في المنظومة الروائية، أما (الصخب والعنف) فإنها لا تصور تفكك أسرة عادية فحسب، بل انهيار سلالة عريقة تمثل شرف الجنوب، أضطر الكاتب فيما بعد إلى شرحها بالتفصيل لصعوبتها، في ملحق خاص مهم بطبعة جديدة للرواية.
وهذا وحده كافٍ لتوضيح الفرق الكبير بين الروايتين! ويمكن ملاحظة بعض التشابه الطفيف بين شخصيات هاتين الروايتين مثل (كوينتن وبنجي وجاسون وكادي، مع ماجد وفاضل وشامل وأختهم فضيلة وحسيبة زوجة فاضل)، التي هربت من العائلة بسبب سوء معاملة أفرادها لها باعتبارها بلا حسب (لاحظ أن اسمها حسيبة)، فهي لا تشبه (كادي)، التي فقدت بكارتها بدون زواج لتهرب من عائلتها.
يتميز فوكنر بغموض سرده عن شخصياته وتقديمها من خلال لغاتها المتعددة المستويات وبتكنيك معقد يصعب فهمه، ولغة مثقلة بجمل وعبارات تصور انتقالات الزمان والمكان و(الهرونوتوب) يجعلها عصية على الفهم، ولهذا يصعب تقبل فكرة مقارنتها بروايات غائب فرمان الواقعية والصريحة والبعيدة عن التعقيدات. إنهما من مدرستين مختلفتين تماماً، يكفي أن نذكر أن فوكنر اشتهر بكتابة أطول جملة روائية!
لنأخذ مثلاً بنجي، المتخلف عقلياً، فهو غريب الأطوار يتواصل مع الآخرين من خلال الشكوى، يقدّمه فوكنر في فصله الأول المكرّس له بلغة تعكس مستوى عائقِه الكبير، فهو لا يستطيع تمييز الحاضر عن الماضي، إذ يروي كلَّ أحداث الماضي قبل 30 سنة كما لو أنها تحدث حالياً، بحيث يحصل الانتقال الزمني دوماً، فيبدو ذلك واضحاً حتى في الجملة الواحدة. إنه معتوه غير قادر على أي شيء، لذلك لا يمكن مقارنته بفاضل، الشاب النجار الطيب لمجرد أنه بسيط وأن زوجته تركته لسوء معاملة أهله لها، ولم يحدث مثل هذا التعامل مع الزمان في (ظلال على النافذة).
والأب عبد الواحد ليس بمستوى (كومبسن) فكرياً وثقافياً واجتماعياً ولا حتى مجتمعياً، ولا يائساً أو مدمناً، بل هو إنسان يعاني من الناستولجيا يبحث عن حبه القديم وكنّته حسيبة (المجهولة الحسب عكس كادي العريقة)، التي لم تهرب لتبيع الهوى مثل كادي.
كونتن أراد أن يسترَ أخته كادي لفقدها عذريتها بلا زواج، ولهذا يدّعي أنه هو من قام بذلك ليحفظ شرف العائلة كلها قبل أن ينتحر، وطبعاً لم يصدقه والده. كونتن رمز أليغوري يجسد أصالة العائلة وسلالتها العريقة، لهذا تسمي أختُه كادي طفلتَها (اللقيطة) التي حملتها خارج العلاقة الزوجية، باسمه (كونتن) الذي يتكرر في العائلة.
فالجنس هنا ليس رمزاً عادياً فحسب، بل أليغوريا عميقة للغاية تجسد صراع الشمال والجنوب، جرى تصويره بلغة لا يمكن مقارنتها بـ (ظلال على النافذة) لعدم وجود هذه الفكرة رغم بعض الإيحاءات.
وقد رددَّ بعض معارف غائب طعمة فرمان وقرائه فكرة أنه لم يحالفه الحظ في انتقاد المجتمع العراقي و(فضح) قوى الشرّ فيه، ونقل لي الكاتب نفسُه هذا الرأي به منزعجاً، كذلك تضايق من وصف جبرا إبراهيم جبرا لأسلوبه بـ “الأسود والأبيض”.
شخصيات متشابهة
يمكن مثلاً، ومن هذا المنطلق التبسيطي “مقارنة” شخصيات (ظلال على النافذة) بـ (مذلّون مهانون1861) لدوستويفسكي1821 – 1881 بطريقة قد تبدو “ساذجة”: ماجد بالراوي الكاتب الطيب إيفان بتروفيتش (فانيا)، شامل الوصولي بالأمير المحتال الأب فولكوفسكي، فاضل بأليوشا، حسيبة بناتاشا، وعبدالواحد بوالد ناتاشا نيكولاي أخمينيف، أم ناتاشا بزوجة عبدالواحد، وفضيلة بالخادمة مارفا!
ويمكن أيضاً عمل الأمر نفسه مع (الصخب والعنف) بطريقة معقولة أكثر، ولاسيما أن فوكنر أعجب بدوستويفسكي كثيراً: كونتِن بالراوي إيفان، مع أن الثاني غير محبط، والمصرفي سيدني هربرت هيد وجاسِن بالأمير الوالد فولكوفسكي، عشيق كادي الأول دالتون أميس الذي فقدت معه عذريتها بالأمير ألكسييه (أليوشا)، وكادي بناتاشا وببنت سميث (أم نيللي) التي هربت إلى باريس مع فولكوفسكي سارق أموال والدها، ونيللي المتسولة، حفيدة سميث بالبنت الإيطالية الفقيرة المتسيبه في الطرق التي يلاقيها كونتن صدفةً في الشارع ويساعدها فيتصورونه يتحرش بها، وكوبسن الأب بوالد ناتاشا رغم الفارق الشاسع بينهما، والسيدة كارولينا بوالدة ناتاشا والخادمة الزنجية دلسي بنظيرتها الروسية مارفه.
ويمكن أيضاً مقارنة (مذلّون مهانون) بـ (بائعة الخبز (188) للفرنسي كزافييه دي مونتابين 1823-1902 إذ إنهما تنتهيان بحبكة متشابهة، حين تنجلي الحقيقة صدفةً في (مذلون مهانون) من خلال رسالة لدى حفيدة سميث (نيللي) تتضمن اعتراف والدتها بأبيها الحقيقي الأمير فولكوفسكي، الذي ينكر أبوته لها، وفي (بائعة الخبز) الرسالة مخبأة في لعبة طفلها القديمه.
ونلمس تشابهاً بسيطاً في شخصية (ويلي لومان) عند (آرثر ميلر) وعبد الواحد من حيث رغبتهما في حماية البيت والحفاظ على وحدة العائلة وتماسكها، بل إن (النخلة والجيران) يتجسد فيها أيضاً هذا المضمون، لكنها أوضح بكثير في (المخاض) وتصل إلى درجة تأثر حقيقي لم ينكره غائب طعمة فرمان، كما أشرتُ في كتابي عنه.
أخيراً، نشير هنا إلى أن الكاتب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني أقرَّ بإعجابه برواية (الصخب والعنف) وتأثيرها الإيجابي.