بين كافكا وكونديرا.. عقاب يبحث عن خطيئة

658

عواد ناصر/

الكابوس، حلم خانق. تنهض من نومك مبتلاً بعرقك، فلا تصدق أنك في سريرك الذي تبيت فيه كل ليلة. أنت معلق، لسبب ما، بغصن شجرة يتكسر تحت وطأة جسدك كل ثانية وتحتك وادٍ مشتعل. ثمة شخص غريب في غرفة المعيشة تحاول أن تصرخ بوجهه: من أنت؟ فلا يخرج صوتك. تداهمك مفرزة أمنية في غرفة الجلوس، وأنت مع زوجتك وأطفالك: أنت قيد الاعتقال! يدور حوار قصير، أو طويل، حسب صلابة الوقت وهشاشة الحق: حقك في أن تطالب بورقة رسمية من قاضٍ ما. تكتشف، في الواقع أو الكابوس: أن القاضي معتقل لسبب ما.

كثيراً يحدث: أن الواقع والكابوس يتبادلان المواقع.. الكابوس واقعاً والواقع كابوساً.

البؤرة التي تنتج من تقاطع الواقع والكابوس هي التي جعلت التشيكي فرانتز كافكا أحد أهم كتاب القرن العشرين. “استيقظ “ك” فوجد نفسه صرصاراً”!. بهذه الجملة تبدأ رواية “القضية” للكاتب التشيكي. تخيل أنك تستيقظ من نومك لتكتشف أنك صرصار!.
هنا، الكابوس مقلوباً: أي أنك لم تكن تحلم. بل استيقظت من النوم، صباحاً، لتذهب إلى عملك مثل كل صباح، فلا تستطيع.. كيف سيذهب الصرصار إلى العمل.

المدخل إلى المتاهة

كان هذا هو المدخل إلى المتاهة التي رسمها كافكا في روايته الشهيرة تلك، ليصحبنا فيها، عبر دهاليز البيروقراطية التي تختنق بالملفات والغبار وشبكات العناكب، إلى مصير شخصيته المثقلة بالعجز واللاجدوى واليأس والعزلة. في روايته “القصر” لا تختلف “الثيمة” عما كانت عليه في “القضية”. يضع الكاتب في هذه الرواية اسم “ك” أيضاً وليس صعباً أن يقرنها القارئ بالحرف الأول من اسم “كافكا”.
يلتقط ميلان كونديرا كافكا وأعماله لأكثر من سبب ليتحدث عنه في كتاب له بعنوان “فن الرواية” ومن بين أسبابه أنه وجد في ذلك العالم ضالته: بيروقراطية الدولة الشمولية، وهي “ثيمة” يكاد لا يخلو منها أي عمل روائي لكونديرا، التشيكي ثم الفرنسي ثم الكاتب باللغة الفرنسية.
في ظني أن العراقيين، أكثر من غيرهم، ذاقوا مرارة الكابوس في بلدهم وخارجه، وثمة الكثير من القصص التي نعرفها أو لا نعرفها نغصت عليهم نومهم ويقظتهم عندما يتبادل الكابوس والواقع المواقع. يمكن لمصحح هذا المقال أو مصممه في صفحة الثقافة أو رئيس التحرير نفسه، أن يغني المقال بكوابيسه الخانقة عبر حياته، مواطناً مقيماً في بلده أو منفياً أو مغترباً، والمثال الأكثر شيوعاً في حياتنا، نحن المنفيين (أو المغتربين أو لا أدري من نحن!) هو أن ترى في كابوسك صورة حلمك العادي: عائداً إلى وطنك. ولكن، ما أن تعود إلى وطنك حتى يصدر قرار بمنعك من السفر.

جواز سفرك منتهي الصلاحية

أو: أن يحدث الكابوس التالي: تكتشف قبل يوم من عودتك إلى منفاك (أو مغتربك، لا أدري، ثانية، ماذا أسميه) أن جواز سفرك منتهي الصلاحية. أول نصيحة من أول عابر سبيل هي: راجع سفارة جهة الإصدار.

السفارة مغلقة لأسباب أمنية!

لا مكان لتعود إليه.

لا أحد يمكنه استضافتك حتى زوال الأسباب الأمنية. أنا أكتب وفق المنطق الروائي لكافكا وكونديرا معاً. لا يقل أحد أنك تبالغ. يحدث أكثر تعقيداً من هذا. وحدث معي ومع غيري أكثر من هذا:

في مطار عربي لم يعترف الضابط بوثيقة سفري من دون كفالة جهة سياسية في ذلك البلد العربي. ولما لم تكن لي أية علاقة بجهة سياسية في ذلك البلد أجبته بالصمت. والصمت يدين المشبوه أكثر مما يساعده في براءته. الصامتون في الدولة الشمولية أكثر خطراً عليها من المتكلمين.

لماذا؟

لدى الدولة الشمولية من الوسائل والأدوات والبرامج ما يمكنها من قياس وتيرة “الكلام” وتبويبه وتفسيره وتأطيره وفحصه ومن ثم إصدار القرار المناسب بشأنه. أما “الصمت” فهو لغز متعب وإن كان من السهل “دعوة” الصامت لكي يتكلم.

من تجربتي الشخصية

كنت جندياً في جيش بلدي ربطتني بالضابط علاقة ملتبسة: هو لم يجد في سريته من يتحدث إليه سواي. كان يبكي بين يدي على حبيبته البعيدة. وأنا أكتب له الرسائل الغرامية.

كنت في غرفته نتبادل الأحاديث “من طرف واحد”.. هو يلقي خطباً وأنا صامت، حتى استدعى أحد ضباط الصف ليحقق معه بحضوري!

هدف التحقيق: ضابط صف كردي متهم بالتعاون مع “العصاة” الأكراد. ضابط الصف صامت، مثلي، والضابط يلقي خطبه واللعاب يتناثر من بين شفتيه. فجأة أمرني الضابط: هات حبلاً لنربطه حتى يعترف. هنا وجدت نفسي في الكابوس. ليس لأني متعاطف مع الثورة الكردية، آنذاك، بل مع إنسان متهم ينبغي أن يقدم لمحاكمة عادلة ليست مثل “محاكمة” كافكا أو قضيته. أنا الآن أمام إنسان، لا صرصار.

المشكلة هي إن الضابط المحقق يعرف ميولي السياسة، عبر تقارير ومصادر أخرى. خرجت ثم عدت لأخبر الضابط: لم أجد حبلاً. الحقيقة: إنني لم أبحث عن حبل. لا أدري لم اقتنع الضابط بقولي، أو لم يقتنع، لكنه اقتنع بطريقة ما. خرج ذلك الكردي من غرفة الضابط وهنا قال الأخير وهو يرى إلي بنظرة شكاكة: سأربطك بدلاً عنه حتى عودتي من الحفلة!

صحيفة الحزب الحاكم

الحفلة كانت بمناسبة رأس السنة. يعني سيربطني حتى الصباح. صمت أمام قراره. والصمت أكثر خطورة من الكلام. في كتابه “فن الرواية” يخصص كونديرا فصلاً لكافكا يبدأه بقصة حقيقية عن مهندس تشيكي يسافر إلى لندن لإلقاء محاضرة. يعود بعدها ليقرأ في صحيفة الحزب الحاكم التي وجدها على مكتبه العنوان التالي: قرر مهندس تشيكي، كان انتدب للمشاركة في ندوة بلندن، أن يبقى في الغرب بعد أن شتم وطنه الاشتراكي!

هذا المهندس لم يشتم وطنه الاشتراكي ولم يطلب اللجوء ليحكم عليه في نهاية الأمر بعشرين سنة سجناً!

يبدي المهندس جهوداً جبارة أمام الجهات المسؤولة فلا يجد إذناً صاغية. يقول كونديرا: من الطبيعي أن تبحث الذنوب عن عقاب. لكن في الدولة الشمولية وبيروقراطيتها ثمة عقاب جاهز يبحث عن ذنوب المواطنين وإن لم يقترفوها.