تحولاتُ الطّين في أعمال طارق إبراهيم
موفق مكي /
كان أسلوب الفنان طارق إبراهيم المولود في بغداد – باب الشيخ العام 1939 في مجسماته الخزفية التي تحاكي البيوت الصغيرة مفاجئاً لمتابعي المعارض الفنية ومحبي فن السيراميك. لكنه لم يكن كذلك بالنسبة لمن يعرف طارق إبراهيم وجذوره الفنية وأبعاد وعيه وإحساسه الجمالي.
ولا بد لمتابع أسلوب الفنان ومعرفة ما توصل إليه، من معرفة مرجعياته الفلسفية وتدريبه الذي تلقاه في دراسته إبان بداياته المبكرة.
تلقى الفنان الخزاف طارق إبراهيم أول دروس التذوق الفني والمهارة اليدويه مبكراً حين كان يعمل مع والده وهو صغير في مشغله اليومي.
:”مرافقتي لوالدي الذي كان يعمل في صناعة الخناجر والسيوف جعلتني أنشدّ للأشكال الفنية المستعملة بشكل يومي وأجيد صناعتها يدويا من خلال التدريب المستمر والإضافة على ما سبق من تصوراتي الخاصة, ما أثر على ممارستي لفن السيراميك والتعامل مع الطين كأمر سهل طبيعي.”
استمر الصبي في حب الفن وممارسته يدويا, وذلك على سبورة الصف هذه المرة وبمادة الطباشير المدرسية حين كان طالباً في المدرسة الابتدائية.
في المرحلة المتوسطة من دراسته اقترب أكثر وأكثر من الفن بصعوده خشبة المسرح ممثلاً ومصمماً للديكور، وبانتظار تخرجه وتقديمه لمعهد الفنون الجميله كان طارق إبراهيم قد أعد نفسه تماما لدراسة فن التمثيل.
رفض والده دراسته للتمثيل في المعهد، فكان أن اختار قسم الرسم بدلاً من ذلك. ولولعه الكبير بالمسرح درس التمثيل مساءً والرسم صباحاً. وفي السنة الثانية له في معهد الفنون ترك دراسة المسرح وانتقل من قسم الرسم إلى قسم السيراميك الذي وجده اقرب إلى قدراته اليدوية ومهارته في التعامل مع الطين، وفي قسم السيراميك وجد فرصة تأريخية استثنائية لدراسة السيراميك، فقد كان هناك مؤسس مشروع فن السيراميك بأبعاده التقنية الحديثة، الفنان والمعلم الفذ (فالنتينوس كارالامبوس) اليوناني المولد والعراقي الهوى والانتماء – حصل على الجنسية العراقية العام 1980- بمرجعياته الفنية اليونانية وتراث البحر الأبيض المتوسط ودراسته في انكلترا التي مكنته من الاطلاع على تيارات الحداثة الأوروبية، والتأثر بالموروث الخزفي الرافديني الذي سبق عصر الكتابة. وكان لحضور ذلك الفنان الأثر الواسع في نمو الوعي الفني لدى طلاب مادة السيراميك وانصرافهم بكل أوقاتهم لمعرفة أسرار الطين.
تخرج طارق إبراهيم في معهد الفنون الجميلة سنة ( 1958-1959) وحصل على بعثة دراسية إلى الاتحاد السوفيتي آنذاك، ومن هناك تحولت بعثته إلى الصين.
:”تجربة الصينيين في مجال الفخار والسيراميك عميقة ولا يمكن فصلها عن حياتهم الخاصة وامتداد حضارتهم، ولسعة الصين كرقعة جغرافية، وتنوع المواد والطين المستخدم في صناعة الخزف، تميزت كل منطقة من مناطقهم عن الأخرى بخصائص مختلفة، بحيث يمكن لمن عاش في الصين أن يحدد مصدر كل منها لتباينها وخصوصيتها.”
صرامة وإتقان
تقوم دراسة الفخار والسيراميك في الصين على مبادئ كلاسيكية يشرف على تطبيقها المعلمون الصينيون بكل دقة وحرص، والطالب نفسه مشبع بتلك القيم العريقة للسيراميك الصيني.
:”أثناء تنفيذي لأحد الأعمال، اتضح لي مدى صرامة تلك المبادئ، حيث قمت بإضافة ذراع خشبية إلى ابريق كنت اصنعه ولم يناقشني او يردعني عن ذلك أستاذي لأني طالب أجنبي، ولو قام بذلك طالب صيني لكان موضع انتقاد وتوبيخ واتهم بتقليد الخزف الياباني.”
تأثر طارق إبراهيم بالاهتمام الصارم بالموروث المحلي، وقد نبهه ذلك إلى الالتفات نحو الإرث العراقي الفني الممتد من فخاريات سومر وأكد إلى العصر العباسي المتأخر، وقد طبق ذلك على طلابه فيما بعد بأن قدم لهم اكبر تشكيلة ممكنة للأشكال الخزفية التراثية، لاعتقاده أن الطالب لا بد له أن يحظى بخلفية واسعة تعينه على خلق أعمال فنية مبتكرة ومستوحاة من الموروث المحلي.
: “من كل ذلك استطيع القول إن تجربتي في الصين تتلخص في استيعابي للشكل الخزفي، وزرعت بداخلي قدرات مهمة لا يستغني عنها الفنان المعاصر.”
اختمرت تجربة الفنان مع ذلك المزيج من فهم الطرق التقنية الحديثة والموروث المحلي لكل بلد تعلم فيه طرق صناعة القطعة الفنية التي بين يديه. وفي بداية حياته العملية ولحظات التطبيق العملي لكل ما تعلم من فنون، وجد مجالاً آخر في عالم السيراميك، وهو معمل للأدوات الفخارية في كوبا. وكان العمل هناك مختلفاً عما ألفه أثناء دراسته الأكاديمية، فهو محاسب بدقة عن خروج القطعة نظيفة خالية من أية نقطة صغيرة تشوب صفاءها قد تظهر بالصدفة، أو يعجب بها الفنان ويكرسها أثناء انجازه كعمل فني متفرد، ما يعد عيباً صناعياً في المعمل الإنتاجي.
كانوا يقولون له هناك: “انسَ الفنان داخلك، إنك تعمل ضمن إنتاج موحد تجاري.”
عندما عاد طارق إبراهيم من رحلاته التي أنضجته فنيا وإنسانيا، ابتدأ بالعمل الخزفي وسرعان ما عرف وبرز بأسلوبه الغريب، فقد كانت قطعه الخزفية التي عرضها في أكثر من معرض عبارة عن أشكال معمارية بدائية.
وقد عبر طارق إبراهيم عن خشيته من أن تؤخذ أعماله في المعارض التي أقامها على أنها نوع من النماذج المعمارية، وليست أعمالا فنية تتخذ شكل البيت الطيني موضوعا لها.
تنقل طارق إبراهيم في معارضه المتعددة من أسلوب فني إلى آخر مغاير فهو يقول أن القيام بمجموعة جديدة من الأعمال ينبغي أن تتقدمها فكرة فلسفية يطرحها ذلك العمل او المعرض الفني، ولذلك فهو يحمّل معارضه أفكاراً محددة تكمل بعضها في سلسلة زمنية مدروسة بدقة، وبعد اكتمال طروحاته ينتقل بسلاسة إلى أسلوب جديد كان قد اخذ نصيبه من النضج الفكري ووجد الوقت الكافي لتنفيذه.
طارق ابراهيم فنان متعدد الأساليب كثير التجارب في فن السيراميك العراقي وقد اعطى بتجربته الطويلة اشارات وعلامات واضحة مشرقة ساهمت في تطور الخزف الرافديني ذي الجذور العميقة في تأريخ العراق.