تسونامي (الطف).. ثورة العدالة الاجتماعية
عقيل الخزعلي /
لم تكن الأحداث الكونية، كالزلازل والفيضانات والبراكين، هي وحدها من غيرت وجهة نظرنا لفهم العالم بشكل أدق، بل كانت هناك أحداث على هيئة شخوص تمكنوا بسبب مواقفهم المبدئية والمثالية الثابتة من أن يكونوا رموزاً عالمية أحدثت بمسيرتها انعطافة ثقافية واجتماعية وسياسية ودينية, وخير هذه الأمثلة شخصية الإمام الحسين (ع) ورحلته التي انتهت بفاجعة كربلاء.
رفض الظلم
لا يمكننا الحديث عن فكرة الإصلاح دون المرور بالمصلح، فـ (تسونامي) التغيير والإصلاح انطلق من دعوة الإمام (ع) يوم العاشر من محرم، إذ بقي صوته المطالب بالعدالة يتردد صداه حتى يومنا هذا، كما لا يخفى على الجميع أن ثقافة رفض الظلم ورفع الحيف عن الضعفاء والناس والمطالبة بالعدالة الاجتماعية بشكل عام ما هي إلا ثمار قطفناها من هذه الرحلة التاريخية.
لقد أحدثت (لاء) الحسين في كربلاء تأثيراً عاطفياً وعلمياً وثقافياً وسياسياً واجتماعياً، وكان من نتائجها بزوغ ثقافة المنبر الحسيني وتأثيره القوي في المجتمع، وبروز خطباء يرفدون الناس بشتى العلوم الدينية، ومنها الفقهية والاجتماعية، بل حتى أن تصديه السياسي في مراحل مختلفة من تاريخ المجتمع الإنساني في منطقتنا، لا يمكن التغافل عنه، فضلاً عن بثه لروح الثورة المستمدة من دمائه.
إرثٌ ثقافي
يرى كثير من المتخصصين والباحثين الذين كتبوا عن هذه الرحلة، أن أهم ما تركته من أثر هو ثقافة التعايش وقبول الآخر، فأحداث كربلاء زاخرة بأشخاص كانت لهم وقفات مؤثرة لنصرة الحق والعدالة الاجتماعية، وهم ممن لم ينتموا حتى للدين الإسلامي، وهو ما خلق فيمن حمل معنى كربلاء روحاً محبةً وتعايشاً مع الآخر المختلف، وذلك لأن أي إرث ثقافي أو اجتماعي ينتقل شعورياً أو لا شعورياً وسلوكاً متعارفاً بين أفراد المجتمع جيلاً بعد جيل، حتى أن ثقافة الموت في سبيل الفكرة والمبدأ التي انبثقت من (الطف) كان لها أثر بالغ في مجمل الحركات، حتى المعاصرة منها، التي نادت بالإصلاح والتغيير والكفاح المسلح ضد الطواغيت. ومن زاوية أخرى كان لتأثير (الطف) في تأليف الكتب تأثيراً كبيراً ألهم كثيراً من الكُتَاب والعلماء أن يتصدوا ويثروا المكتبات بكتب ذات مضامين تناولت أغلب الجوانب التي رافقت وأسهمت وأنتجت تلك المصيبة حتى وصل صداها إلى العالم أجمع، كتب أسهمت في تطور الوعي الثقافي والسياسي والديني، وكانت واحدة من ثمارها بلورة ثقافة النقد بشقيها الاجتماعي والسياسي.
شعرٌ حسيني
لا يمكن إنكار حجم التأثير الكبير للطف في الحياة والحركة الثقافية للناس والمجتمع، إذ ألقت بظلالها على مختلف الأجناس الإبداعية ومنها الشعر، الذي عرف فيما بعد بالشعر الحسيني، لما له من طابع وذوق خاص وقدرة على التوظيف الإبداعي والحفر عميقاً في الوجدان الإنساني. هذا من جهة، ومن جهة أخرى اختص هذا النوع من الكتابة بشكل عام بالمعارضة السياسية ونقد أنظمة الطغيان واستنهاض الأمم ضد الطواغيت، سواء ما كتب منه بالفصحى أو بالعامّية.
كما أن واحدة من إسهامات (الطف) بثها الروح بفني الرسم والنحت باعتبارهما فنين تعبيريين حاولا إيصال معنى هذه الرحلة ونتائجها إلى الناس عبر اللوحات أو النصب الفنية، بعد أن لاقت أحداث كربلاء اهتمام أغلب الرسامين في شتى دول العالم.
مسرحُ الطف
أما حينما نطالع حركة الإنشاد والتغني بمآثر الأبطال وأمجادهم وبطولاتهم، فإننا سنجد أن الرمزية العاشورائية لها حصة الأسد فيها، إذ أننا سنجد أن ثقافة الإنشاد التي تسمى بـ (الردات الحسينية)، برزت بعد (الطف) وأخذت تتصاعد وتيرتها وأسلوبها في المجتمع لتصبح فيما بعد واحدة من أدوات المعارضة السياسية، أناشيد تطورت بفعل الزمن وتطور اللحنية، ما أسهم برواجها على نحو واسع.
ولم يتوقف تأثير هذه الملحمة العظيمة في الشعر والموسيقى فحسب، بل إنها أثرت في المسرح أيضاً، الذي نجد فيه كثيراً من القيم التي رسختها هذه المنازلة الكبيرة بين الحق والباطل عبر الفعل أو الخطابة، حتى أن كثيراً من المتخصصين وجدوا أن تأثير (الطف) على المسرح العراقي كبير جداً، منطلقين من بدايات إقامة ما يطلق عليه اليوم (التشابيه)، وهي محاكاة شعبية لتلك الواقعة التي جرت على آل بيت النبي (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) وعلى أصحابهم، محاكاة أبطالها من عامة الناس، يعيدون فيها تمثيل الواقعة وشخوصها أمام حشود الناس، مستعينين بما كتب عن المعركة في كتب التأريخ، مجسدين شخوصها الذين يلقون حواراتهم بعفوية تامة، لذلك يجد كثير من المتخصصين في الشأن المسرحي، أن استمرار تمثيل هذه المنازلة الكبيرة والاستعداد لها سنوياً، أثّر كثيراً في المسرح العراقي وفي المجتمع، إذ بات وسيطاً مهماً لنقل القيم والأفكار الإنسانية الكبيرة.
قيمُ العدالة
قلنا إن هذه الواقعة لم يقتصر تأثيرها على فن واحد بل ربما يمكننا القول بتأثيرها في مجمل الفنون الإبداعية كالقصة والرواية وباقي الفنون، أثر سنجده كلما قرأنا كتاباً لكاتب عراقي ينصر به قيم العدالة ويستشهد بمظلومية (آل البيت) الذين ضحوا بأرواحهم من أجل نصرة المظلومين بوقوفهم بوجه الظالم.
من هنا تأتي أهمية استعادة ملحمة (الطف)، لا من حيث أنها مناسبة دينية تنتصر للحق ضد الباطل، بل لأنها تسهم في تنشيط حركة النقد وتصحيح المسارات الخاطئة وتعزيز قيم العدالة الاجتماعية التي نحن اليوم بأمس الحاجة إليها، بعد أن استشرى الظلم في وطن ابتُلي بالطغاة والفاسدين حتى يومنا هذا.