خزافٌ مغترب بروح عراقية طارق الشبوط.. مبدعٌ خارج الحدود

444

زياد جسام /

للفن العراقي حضور مهم في العالم عموماً، فقد تشاهد في العديد من بلدان العالم بصمات عراقية، سواء أكانت نُصباً أم تصاميم معمارية أم أعمالاً فنية متنوعة أخرى، لأن المبدعين العراقيين نشطون في جميع الميادين، ونخص في ذلك أولئك الذين يعملون في مجال التشكيل مثل الرسم أو النحت أو الخزف أو العمارة.
سنحت الفرصة لنا أن نزور بعض مشاغل الفنانين خارج العراق لنطلع على منتجاتهم هناك، ومنها مشغل الفنان المبدع الخزاف طارق الشبوط في بروكسل..
طارق الشبوط واحد من الفنانين العراقيين الأكاديميين المقيمين في بروكسل، زرنا مشغله وشاهدنا نتاجاته واطلعنا على مراحل عمله الصعبة، على اعتبار أن الخزف يمر بمراحل عديدة، ومشغل الخزف يختلف عن باقي المشاغل الفنية، إذ أنه يعتمد على الأفران الحرارية والطين والأكاسيد، وغيرها من الخامات الكيمائية. ومن الملاحظ أن أعمال الفنان الشبوط حققت نجاحاً باهراً، إذ فرضت نفسها على المتلقي، وأصبح لها حضور في الساحة الفنية، فهو قد تخصص بالنحت الفخاري، وتمكن فعلاً من وضع بصمة خاصة له حاول الابتعاد بها عن النتاج الخزفي التقليدي، وقد نحج في ذلك الى حد ما..
شحنات إبداعية
في أعماله –عموماً- شحنات إبداعية جمالية غنية بمدلولات الشكل وتكويناته، وأشكاله المجسمة تتنوع بين التشحيص التعبيري والمحاكاة الواقعية والتجريد والتركيب.. الى آخره، فضلاً عن ملحقاتها الجمالية من زخارف ولون وأشياء أخرى تضفي على العمل قيمة إبداعية، كل هذه الصفات وجدناها في أعمال الشبوط، لكونه من الفنانين الذين لا يؤمنون بالثبات على تجربة واحدة، بل يحاول التجريب بشكل مستمر، ويبحث عن الابتكار دائماً.
في عموم أعماله الفنية ثمة أشياء تستوقف المتلقي، لتحرك مشاعره وتثير في داخله تساؤلات كثيرة تدور حول التقنية والتكوين واللون التي بنيت على إثرها وبينت إمكانيات الفنان وجرأته.
ورغم ابتعاد الفنان طارق الشبوط عن بلده العراق لسنوات عديدة ووجوده في بلجيكا، إلا أن أعماله في غالب الأحيان تسلط الضوء على القضايا الكونية.. إذ أنه لم ينسلخ عن بيئته الأم التي ترعرع فيها، وفي كثير من الأحيان يجد المتلقي أن الموضوعات التي يشتغل الشبوط عليها ما زالت تلامس البيئة العراقية والتراث العراقي اللذين طبعا في مخيلته ولا يمكن مغادرتهما أبداً.
صياغات جديدة
لو تمعنا في نتاجاته لوجدنا أن موضوعات البيئة العراقية في أعماله جاءت كاستكمال جمالي يحقق من خلاله معنى كبيراً، ويؤكد خصوصية العمل الذي يقدمه. إضافة الى ذلك فإن المفردات المحلية العراقية تمنح العمل الخزفي الحديث صياغات وتأويلات جديدة على المتلقي الغربي على الأقل، ومثال على ذلك موضوعه الذي اشتغل عليه في الفترة الأخيرة وشغله جداً، وهو موضوع الـ ( البقجة) او ما يسمى بـ (الصرة) بالمصطلح الشعبي الدارج في العراق، او ما يمثل قطعة قماش كبيرة توضع في داخلها بعض الأغراض وتربط من زواياها الأربعة لتحل محل الحقيبة، إذ لا شك في أن هذه الـ ( البقجة) موجودة في العديد من بلدان العالم، لكن الفنان طارق الشبوط استلهمته تحديداً (بقجة) جدته التي كان يراقبها في صغره وهي تضع في داخلها الملابس أو الأغراض، أو القدر لتحفظ حرارة الطعام داخله مثلاً.. لا شك في أن هذه الفكرة الجميلة استوقفت المتلقي وجعلته في حوار معها، ترى ما الذي في داخلها؟
وهنا حقق الفنان الشبوط ما يصبو إليه، ففي هذه الفكرة كل مقومات العمل الناجح، شكلاً ومضموناً.. فالكتلة التي شكلها، محاكياً من خلالها (البقجة) او قطعة القماش التي تأخذ شكلا كروياً مع طياتها، والعقدة الكبيرة التي تتوسطها، جاءت متماشية مع طبيعة الأعمال الخزفية، على اعتبار أن الشكل الكروي أكثر الأشكال قدرة على تحقيق نوع من التوازن، لذا نراه قد يتكرر في غالبية أعمال الخزافين في العالم.
محاكاة واقعية
ناهيك عن أعماله الأخرى التي أنجزها وأثارت إعجاب المتلقين، ولاسيما النقاد المتخصصين، على اعتبارها أعمالاً فيها صعوبة بالتنفيذ، لأن خامة الطين والأكاسيد التي تلونها مواد صعبة، إذ لا يمكن التنبؤ بنتيجة اللون الذي يريد الفنان محاكاته، إذا كان لوناً طبيعياً، فكيف يكون الحال عندما يحاكي الفنان طارق الشبوط لون اللحم المقطع، مثل لحم الخروف، او حتى لحم الإنسان، فقد تمكن من محاكاة لون وشكل اللحم بطريقة إبداعية جميلة، أحياناً توهم المتلقين بأن هذا التكوين ربما يكون قطعة لحم حقيقية، لذا يحاولون لمسها للتأكد.
في هذه التجارب حاول الشبوط أن يلجأ الى الاستعارات والرموز في التعبير عن مفاهيم دلالة النص الإبداعي، ليكون مرتكزاً على مفردات استعارة تتشابك مع خامات الخزف المعروفة، واستعارة معنى جديد يكون هو محور العمل الفني لتنقله بين النص أو المضمون والشكل العام، وهذا ما يمنح الأعمال الفنية لديه نوعاً من التكثيف والاختزال بصيغة فنية ذات طاقة تعبيرية عالية.