ستار كاووش: أعمل على أن أجعل اللوحة تنطق بما هو جديد
عبد الحسين بريسم /
استطاع الفنان العالمي ستار كاووش ان يشغل مساحة واسعه في المشهد التشكيلي العالمي، ويثبت انه ظاهرة متفردة في رسم لوحاته. وفي آخر مجموعه فنية له تحت عنوان (الغابة) نجد الكثير من الوجوه التي حولها الى لوحات توحي بالتفرد والإبداع.
أوراق الغابة
يتحدث كاووش عن أهم محطات حياته الإبداعية التي سنبدأها مع مجموعة (لوحات الغابة) ..
*نرى أنك اشتغلت فيها بشكل مغاير، وإن كانت ضمن مدرستك المعروفة… هلا تُحَدثنا عن هذه اللوحات؟
– هذه اللوحات حَمَلَتْ الكثير من الشخصيات ذات التفاصيل والملامح التي أرسمها دائماً، لكن التقنية هنا هي التي تغيرت، وحين تتغير التقنية فستذهب الموضوعات الى أماكن جديدة، ربما تكون قصية وبعيدة وغامضة، كذلك فإن في هذه اللوحات تحيط الطبيعة بكل الشخصيات وتحتضنهم، فقد خرجت من الغرف والصالات والأماكن السرية التي جمعت المرأة والرجل في لحظات خاصة بلوحات سابقة، وذهبت الى أهم ملهم في تاريخ الرسم: وهي الطبيعة بكل ما تحمله من سحر وسطوة وجمال، لذا أحببتُ كثيراً هذه المناخات واسترسلتُ فيها، شعرتُ فعلاً بأني أعيش داخل هذه اللوحات، وقد تعودتُ التجول يومياً في الغابات والمزارع القريبة من مرسمي، وعند عودتي تكون قد تجمعت بين يدي ضَمَّة من أوراق الأشجار المختلفة التي التقطتها من هنا وهناك، وحين أعود وأفتح باب المرسم، أفرش هذه الوريقات على الطاولة الكبيرة للمرسم، أُقلبُها وأغيِّر وضعياتها بغية إدخال شيء منها في اللوحة التي أعمل عليها، هكذا أشعر بأني أعيش وسط لوحاتي، ولا فرقَ عندي سواء رسمتُ الغابة أو تجولتُ فيها.
الضياء والظل
يضيف كاوش: الضوء بشكل عام هو روح الرسم، وحين أنظر الى ضوء الشمس الذي يتخلل أوراق هذه الأشجار، أعرف معنى الرسم، هكذا يخترق ضوء الشمس جسد الغابة وهو يتلألأ مثل دراهم ذهبية، ويتناثر على جذوع الأشجار وعلى الأرضيات المضمخة بلون الطحالب الأخضر، وحتى بعد أن يخبو هذا الضوء قليلاً، تظل بقاياه وآثاره ملتمعة على حافات أوراق الأشجار وعلى السيقان اليانعة للعشب الذي ينتصب مرحباً بالضوء ومعانقاً له، كل هذا أراقبه في الغابات الصغيرة التي تنتشر في مقاطعة فريسلاند التي أعيش وأرسم فيها، هكذا أحاول أن أعكس المناخ الذي أعيش فيه على لوحاتي، ومن هنا جاءت لوحات الغابة.
الرسم والكتابة
* تعمل على اللوحة التي تميزت فيها بصمتك الخاصة، كذلك تكتب مقالات مميزة ومتفردة في الطرح. أيهما يخدم الآخر؟
-أنا رسام، عملي الأساسي هو الرسم، وبالنسبة للكتابة فهي الرئة الثانية التي أتنفس بها حين يغفو باليت الألوان قليلاً… الكتابة نبعت ربما من حاجة روحية أو معرفية، فأنا أكاد أزور متحفاً كل أسبوع، أو أشاهد فعالية فنية أو ثقافية، لذلك تزدحم الكثير من التفاصيل والصور في ذهني وأحاول أن أشرك الآخرين فيها، وهكذا أكتب انطباعاتي الشخصية في الغالب عما أراه ، الجيد في الأمر هو أنك حين تزور متحفاً وتشاهد العروض المختلفة، تعرف أين تضع قدمك في عالم الرسم، تعرف التقنيات والوسائط والمعالجات، وتعرف قيمة لوحتك وسط كل هذا. لم أكتفِ بالكتابة باللغة العربية فقط، إذ لديَّ عمود ثابت أكتبه باللغة الهولندية في مجلة (أتيليه) التي تعتبر واحدة من أفضل المجلات الفنية في الأراضي المنخفضة، كذلك ترجمتُ رسائل الرسام فنسنت فان خوخ من الهولندية الى العربية، وهذه أول مرة تُترجم فيها هذه الرسائل مباشرة من لغتها الأصلية الى اللغة العربية.. ولأني أرسم يومياً فالمهارات التي أمارسها في الرسم تخدمني في الكتابة عن الفن وأساليبه ومعالجاته، من جانب آخر فالانغمار بالكتابة والتماهي معها يمنحاني قوة وثباتاً وثقة أثناء الرسم. وفي كلتا الحالتين يكون الصدق هو الأساس وهو الذي يجعلني أمضي بقوة وسهولة أيضاً.
سلاح الغربة
*كيف تجد الإقامة في بلدك الثاني.. هل أضافت لك مميزات أخرى إضافه لما تحمل؟
-الاغتراب سلاح ذو حدين، فهو من جانب يبعدك عن مكانك الذي تعودت عليه وتعلمت فيه وحفرت كل ذكرياتك، ومن جانب آخر فالغربة تجعل فرديتك عالية، وتمتحنك في إيجاد الحلول، حلول لحياتك ولفنك. عليك هنا -كي تعرف طريقك للنجاح- ألا تكف عن المحاولات، وألا تتوقف عن البحث والمطاولة، والطريق ليس معبداً بالزهور دائماً. تحتاج لمن يرشدك الى الطريق حتى ولو بكلمة عابرة، أن يقف الحظ معك في حالات معينة كي تمضي بيسر مع خطواتك. لا أعتبر نفسي مقيماً في هولندا، فأنا أعيش هنا منذ سنوات طويلة جداً وصرتُ جزءاً من هذا البلد الجميل، لكن في كل الظروف وكل الأحوال فأنت لا تحصل على ما تريده كهدية مجانية، فالعالم لا يوزع الحلوى والهدايا، عليك أن تعمل وتجتهد، عليك أن تتعلم لغة البلد وتتعرف على ثقافته وتقاليده، أن تطرح نفسك كمنافس وتثق أن بإمكانك أن تتفوق على أبناء البلد ذاتهم. الموهبة هي التحكم في النهاية، والعمل المضني يعطي ثماره في آخر الأمر. في بداية مجيئي الى هولند كنتُ أجمع النقود القليلة التي معي وأشتري الأعداد المستَعمَلَة من مجلة (أتيليه) لأنها أرخص من الجديدة، والآن أنا أكتب عموداً ثابتاً في ذات المجلة. عموماً أشعر بنوع من المتعة حين يشتري الفنانون الهولنديون المجلة لقراءة ما أكتب.
مدارس فنية
*ما هي المدارس الفنية الأقرب إليك؟
-بشكل عام أنا فنان تشخيصي، أي لا أرسم لوحاتي بطريقة تجريدية، ويمكنك التعرف بيسر على تفاصيل لوحتي، لكني مع ذلك لا أحاكي الطبيعة ولا أنقل الواقع مباشرة، بل أنظر الى الواقع من زاوية خاصة وأرسمه بطريقة شخصية، وأعمدُ لتحريف الأشكال هنا وهناك لضرورات فنية، أو أجرد بعض الهيئات وأضيف بعض الخطوط، وأضع ألواناً ليست بالضرورة هي ذاتها الموجودة في الطبيعة.. التعبيرية هي القريبة دائماً مني وفي كل مراحل حياتي، والفن بشكل عام أعتبره كله فناً تعبيرياً، إنك حين ترسم فأنتَ تعبر عن شيء ما بالألوان والخطوط ومعالجة المساحات، إذن التعبير هو الأساس في العمل الفني، والتعبيرية بالنسبة لي لا تنحصر بالمدرسة المعروفة بذات الاسم، بل إن ما قصدته يبدأ من حافة الواقعية ويمتد بعيداً نحو الانطباعية والوحشية والتكعيبية ويمضي مع الكثير من الاتجاهات حتى يحاذي التجريدية. عموماً لوحاتي بشكل عام وفي كل مرحلة يمكن تصنيفها سواء ضمن هذه المنطقة أو تلك المساحة، ولوحاتي الآن فيها الكثير من الغنائية التي تقربها من حكايات جاءت من مكان غامض وبعيد، لذا يمكنني أيضاً أن أقول على الكثير من لوحاتي بأنها قريبة أيضاً من الواقعية السحرية.
تأثير الحضارة
*هناك تأثير واضح -حسب ما أرى- للحضارتين السومرية والبابلية في أعمالك.. ماذا تقول عن ذلك؟
-الفن بشكل عام هو نتاج كل هذه الحضارات التي مرت على الأرض، وأرى أن أعمالي فيها الكثير من التفاصيل العراقية ومناخات ألف ليلة وليلة، كذلك رسمت لوحات كثيرة تمثل أشخاصاً مجنحين وهذه استفادة واضحة من الفن العراقي القديم، ولاسيما الثور المجنح الشهير في الحضارة العراقية القديمة. لكني لا أخفي أيضاً تأثري بالفن في هذا العالم الذي أعيش بين جوانحه الآن، وهكذا مثلما أدخلتُ تفاصيل وأجواء بغداد، استفدتُ كذلك من الرسم على الزجاج المعشق بالرصاص والآرت ديكو والطبيعة الساحرة، كذلك لا يمكنني سوى أن أقف باحترام لعباقرة الرسم الكبار، وأنا أتأمل لوحاتهم العظيمة في المتاحف، كل هذه التفاصيل وغيرها، تنعكس على قماشات الرسم التي أنفذ عليها لوحاتي.
-آخر مشاريعك ومعارضك؟
–بالنسبة لي لدي غاليري خاص بي، يحاذي مرسمي، وهنا يزورني من يحب الاطلاع على لوحاتي أو اقتناءها، ولديَّ الكثير من المشاريع الفنية التي ستأخذ طريقها للعرض، سواء في هولندا أو خارجها. وفي كل الأحوال أنا أرسم كل يوم، وأقضي غالبية ساعات يومي في المرسم، كذلك انتهيت من تأليف كتاب باللغة الهولندية أتحدث فيه عن رؤيتي للثقافة الهولندية وتفاصيل الفن وما أراه كل يوم أمامي، وأتمنى أن يصدر نهاية هذه السنة أو بداية السنة المقبلة. وخلال أيام قليلة ستصدر سيرتي الفنية عن دار الحكمة، وهي من تأليف الكاتب والباحث الجمالي خالد مطلك، وهي تتعلق بسنواتي التي عشتها ورسمتُ فيها ببغداد في الثمانينيات وبداية التسعينيات، وتتضمن أكثر من مئة لوحة ملونة من تلك الفترة. يبقـي الرسم بشكله العام هو مشروع حياتي كلها، وهو السبب الذي أصحو من أجله كل يوم، فاتحاً نافذة المرسم وشاكراً نعمة الضوء الذي يغمرني ويغمر المرسم واللوحات وكل شيء حولي.
فلسفة الفن
*ما فلسفتك في اللوحة؟
-ليست هناك فلسفة محددة أو خاصة، فأنا أتوجه الى المرسم كل صباح، ولا أعرف النتائج التي سأحصل عليها، أجرب هنا وهناك، أضيف بقعة لون في هذا الجانب من اللوحة وأضع بضعة خطوط في جانبها الآخر، أضيء هذه الزاوية وأعتم تلك المساحة، أغيِّرُ هنا وأمحو هناك. وبعدَ الكثير من التعديلات وسط هذه المغامرة، تأتي النتائج، وعادة تكون ليست مرضية تماماً، لأعودُ من جديد منغمساً في مناخ اللوحة وتقنياتها. ربما أبدأ بتخطيط صغير يكون أساساً للوحتي، لكني أثناء الرسم أذهب بعيداً ولم تبق من التخطيط الأول تفاصيل كثيرة، والأمر يشبه عازفي الجاز الذين تعودوا على عزف الموسيقى دون نوتة موسيقية، بل يبتكرون النغمات وقت العزف ويتماهـون مع تدرجات صوت آلاتهم الموسيقية بشكل مرتجل، لتخرج معزوفاتهم تشبههم تماماً لأنها جزء من أرواحهم. الفلسفة الوحيدة في الرسم هي أن تذهب الى المرسم لترسم لوحة جديدة، وكل شيء غير ذلك ليس كافياً ولا ثابتاً بالنسبة لي. فالفنان الحقيقي لا يعرف ولا يكتشف تقنياته سوى بالعمل اليومي الدؤوب. وحتى لو أحببنا الرسم وعشقناه تماماً فهذا ايضاً ليس كافياً ولا يجعلنا فنانين، لأن اللوحة تشبه امرأة جميلة وحانية، فلا تحدثها عن الفلسفة ولا تشرح لها كيف أنك تحبها، بل اعرف الطريق الى قلبها أولاً.
نافذة الفن
*كيف تجد العالمية التي حققتها؟
-لا أُسمي ذلك عالمية، بقدر كوني موجوداً وأعرض لوحاتي في أكثر من مدينة ومكان، الفن الآن مفتوح على كل الجهات، وأنت كفنان واجبك أن تكافح لتجد لك منطقة تقف عليها، تجتهد كي تفتح نافذة خاصة بك، تتعب كي تجد من يحب أعمالك ويشير إليها، تحاول هنا وهناك لتعكس صورة جيدة عن نفسك وعن بلدك الذي جئتِ منه. في المعارض الهولندية عادة ما يتحدث الفنان للجمهور قبيل الافتتاح بدقائق عن أعماله وتقنياته وبعض التفاصيل المتعلقة بعمله، ثم يبدأ المعرض. وفي كل المعارض التي أقمتها، أتحدث وأذكر العراق وبغداد والمكان الذي جئت منه، العالمية بالنسبة لي هي أن أذكر بغداد وأشير لبلدي بمحبة ولو من بعيد، وأحياناً لا أكتفي بذلك، حتى إن واحداً من معارضي الأخيرة – الذي أقمته في غاليري لافاي- كان عنوانه (بغداد في الشمال)، لأني استحضرت بغداد لشمال العالم حيث هولندا التي أعيش فيها. لذلك أُشَبِّهُ نفسي عادة بشجرة جذورها ثابتة في بغداد وأوراقها تزهر في هولندا.