قصيدةُ النثـر.. تسميةٌ دقيقة أم شكلٌ عجز النقاد عن تعريفه؟

1٬175

عباس ثائر /

إذا عدنا إلى المرجع الفرنسي بودلير، “قصيدة النثر الفرنسية في القرن الثامن عشر”، تغدو القصيدة نثراً او بالنثر، وهذا الاسم لم يغلب بالعربية بقدر ما غلب مصطلح قصيدة النثر الذي هو أقل دقّة، لكن مهما يكن فإن توارث مصطلح قصيدة النثر واستمراره كافيان لإقراره والاعتراف به.

رأس الشاعر كيس كبير يضع فيه أفكاره ورؤاه، بل حتى ما يتطلبه الأدب على وجه العموم والشعر على وجه الخصوص. وأنا أسير بين مفردات القصيدة وأقفز من نص لآخر سقطت من رأسي بعض الأسئلة فالتقطتها ورحت أبحث عن إجاباتها، فمررت بشعراء لهم باع طويل في الشعر والصحافة والإعلام:
•هل ترى أن مصطلح قصيدة النثر هو الاصطلاح الأصح والأدق لهذا الشكل الشعري الحديث وهل يتوافق مع ما يحتويه جوهرها وطيّها؟

•اذا ما كان الشكل الشعري الحديث -قصيدة النثر- هو الأحدث، كيف يمكن ان يُحدث مرة أخرى بعد ان جردت القصيدة من أهم ركائزها القديمة: -الوزن والقافية- بل وحتى من الموضوعات القديمة كالمدح والرثاء الخ؟
– لا يشترط في الاسم أن يكون في هذا الحال مطابقًا لمسماه؛ يكفي العرف والاصطلاح والعادة والتقليد ليلبث الاسم مضمونه وليعبر عنه، اسم قصيدة النثر إذا عدنا إلى المرجع الفرنسي بودلير”قصيدة النثر الفرنسية في القرن الثامن عشر”، تغدو القصيدة نثراً او بالنثر، وهذا الاسم لم يغلب بالعربية بقدر ما غلب مصطلح قصيدة النثر الذي هو أقل دقة، لكن مهما يكن فإن توارث مصطلح قصيدة النثر واستمراره كافيان لإقراره والاعتراف به.

-أظنُ أن قصيدة النثر نوع آخر من أنواع الأدب، فهي ليست بديلاً عن قصيدة الشعر، إنها موازية لها ولا تحل محلها؛ فقصيدة النثر لا تستوجب زوال قصيدة الشعر ولا استبدالها، يبقى الشعر شعراً، وتبقى قصيدة النثر قصيدة نثر بدون أن يحل أحدهما مكان الآخر.

عندما نقول قصيدة نثر فإن الاسم يقع تماماً على مضمونه، قصيدة النثر تصدر عن النثر وبالنثر، بينما قصيدة الشعر هي قصيدة شعر بما يعني الوزن والقافية. ليست بين قصيدة النثر وقصيدة الشعر مباراة او موازنة، كلتاهما في مكانها ومطرحهِا وكلتاهما مشروطة بنفسها ومقوماتها.
الشاعر اللبناني عباس بيضون.

-قد يكون متعذراً الحديث بالتعميم كلما كنا بصدد أي تحديد جناس. الشعر نفسه كان وما زال هو الآخر يتمنّع على القبول بالتعميمات. فالكثير مما يجري القبول به من قبل مؤلفيه على أنه شعر يصادف أن لا يرضي كثيرين من قرائه ممن لا يرونه شعراً.

لكن هناك (اتفاقات عامة)، يسهم فيها النقد، تسمح بوضع حدود (معينة) لأية صفة تجنيسية. لا بأس بالقبول بهذه (الاتفاقات) كمنطلق للتفاهم بشأن أمر كتابي، كالشعر، لا يقبل بـ (الاتفاقات)، ويدّعي، أو يعمل فعلاً، على التمرد عليها.

لم يعد جديداً القول إن كثيراً مما يكتب في الثقافة العربية تحت تسمية (قصيدة نثر) لا يتسجيب لمتطلبات هذه التسمية، كما ترسخت في مهادها الغربية. وليس هذا نقصاً في هذا المكتوب عربياً ولا هو بالامتياز له، النقص أو الامتياز يتقرران نصياً.

كل شعر يكتب بتأثير، بشكل ما، من لغته وتاريخه الثقافي. قصيدة النثر الغربية أنتجت وتراكمت بهذا التأثير، ولا يمكن نقلها للثقافة العربية بانضباط والتزام تامّين بالتقاليد الفنية التي أنشأتها هناك في الغرب.

لكن لا بأس أيضا في استخدام المصطلح كما استقر، إنما أحسب أننا بحاجة إلى جهود نقدية وبحثية لاستخلاص (مواصفات) من تراكمات النصوص الجيدة التي كتبت خلال هذه العقود، وهي مواصفات، إن تحقق ضبطها، قد تنأى بـ (قصيدة النثر) العربية عن قرينتها الفرنسية. في أميركا حصل ويحصل شيء قريب هذا، كثير من التوصيفات التي عملت عليها قصيدة النثر الأميركية بأطوارها الأخيرة، لا تبتعد كثيرا عما يحصل عندنا.

-لا أحسب أن الشعر نأى كثيراً عن (أغراضه) التقليدية العامة، كالمديح والهجاء والغزل والرثاء والفخر والشكوى من الزمان. في نقدنا العربي القديم هناك من يحصر أغراض الشعر بالمديح والهجاء فقط، الغزل والرثاء، وحتى وصف الطبيعة، لا ينظر إليها كأغراض وإنما موضوعات يمكن إدراجها في الغرضين الرئيسين: المديح والهجاء. كل ما كُتب، بمنظور هذا التصور هو إما مديح أو هجاء.

بموجب ذائقتنا ووعينا الآن قد تبدو التسميتان نافرتين، بموجب ما تراكم عنهما من تصورات. لكن واقعاً فإن ما نكتبه من شعر يظل قريبا من هذه الأغراض، لكن الموضوعات تنوعت وتحدثت فتغيرت.

يصدق هذا حتى مع أكثر موضوعات الشعر تجريداً، وحتى مع أشدّها اهتماما بالعوالم الداخلية للشاعر، وحتى ونحن ننشغل بما هو وجودي وكوني، ناهيك عما ننشغل به من تفاصيل يومياتنا وأعباء حياتنا.

حياة الشاعر وخبراته ممتزجةً برؤاه، هي معينه في تقديم موضوعات وتأخير سواها. حياة الإنسان باتت أكثر تنوعا من تلك الطبيعة المحدودة التي كانت عليها حياة الشاعر القديم، وهذا ما يساعد شاعر هذا العصر في التوفر على موضوعات غزيرة بمعانيها، لكن الفلك العام لهذه الموضوعات يظل بمآله الأخير قابلا لتحديده بتلك الموضوعات التقليدية التي صاغها النقد العربي القديم واستخلصها من تراكم نصوص عصورنا الشعرية العربية المتقدمة.

الشاعر عبد الزهرة زكي