ما بين الأمر يكي ريان والحشداوي عباس.. كان ياما كان

332

محمد موسى /

بأوامر مباشرة من (ستيفن سبيلبرغ ) مخرج فيلم (إنقاذ الجندي ريان) على (توم هانكس) أن يتوجه فورا من شاطئ أوماها ليبحث عن المقاتل (رايان)، إنها المهمة الأصعب أن يجد مجنداً مغموراً بين آلاف المقاتلين، قد حُمل جواً الى أحد مواقع القتال في فرنسا ضمن الفرقة 101. ولسوء الحظ فإن القناص الألماني غالباً ما يكون قادراً على إيقاف خطط الإنقاذ وإيقاع الصراع بين مجموعة المنقذين بقيادة النقيب (ميلر – توم هانكس) الذين يقارنون بين أهميتهم كمجموعة وأهمية مجند واحد،على طريقة سبيلبرغ
لا أحد ينقذ الطفل عبد الله
وما هو الشيء العظيم في هذا الشخص كي يعرضوا حياتهم للخطر ويموت بالفعل قسم منهم لإنقاذ (رايان).. الحكاية تبدأ من فهم القيادة لأهمية أن يبقى هذا المجند على قيد الحياة بعد أن علموا أن إخوته الثلاثة قد قتلوا، وأن من الإنسانية أن يعود الى الوطن دون أن تخسر عائلة رايان كل أبنائها.. هذا المحتوى الإنساني كان الثيمة الرئيسة للفيلم، ومع مخرج فذ يستطيع أن يظهر العواطف الشعبية بشكل لائق، قادهم ستيفن سبيلبرغ الى بر الأمان بعد أن حقق الانتصار على جميع الجبهات، الألمان قد هزموا، وهنا تحقق هدف الجهة المنتجة وأرضى القيادة العسكرية بأن الجيش الأمريكي (لا يقهر)، ومن ناحية أخرى أظهر مدى اهتمام القادة بأمر مجند لا يعرفونه شخصياً.
في المحصلة.. كان ستيفن قادراً على خلق مجموعة من المنقذين غير المتناغمين، وكثيراً ما كانوا يثيرون المتاعب، إلا أن تنفيذ الأوامر هو من الثوابت رغم كل شيء، إنه إرضاء للجميع ونيل للأوسكار، واكتشاف طاقات لم تكن مؤثرة قبل هذا الفيلم مثل (فين ديزل، ومات ديمون، وإدورد بيرنز).. لنترك القصة ونذهب الى أحلام المقاتلين، أحلام كل فرد لم يكن يتوقع يوماً أن يترك أحلامه في غرفته الصغيرة وربما لن يعود إليها أبداً ، كل من قاتل في أرض المعركة هو شخص طموح في حياته المدنية، والسؤال الذي لم ينفك يسأله الجميع: لماذا الحرب؟
ألا تتسع الأرض لكل بني البشر؟ وهل أنى(رايان) هو الحالة الأولى في التاريخ الذي فقد إخوته جميعاً دون أن يعلم أين وكيف قتلوا؟
إذا كان ستيفن قد أسس فلمه على قاعدة رايان، فإنه لم يغفل أنه أمريكي عليه أن ينتصر، وهكذا هم جميع صناع السينما، محكومون بالمنتج وصاحب السلطة.
فعشرات الأفلام اليابانية –مثلاً- أظهرت بسالة ومقدرة الجيش الياباني، وكيف أنهم انتصروا في غالبية معاركهم، وبالتالي فإن الألمان لم يستسلموا من الناحية الفنية كما استسلموا من الناحية العسكرية، فهم ما زالوا يستعرضون قوة المؤسسة العسكرية لهتلر رغم خيبة الأمل بالنتائج، وعلى هذا المنوال كل يذهب باتجاه تمجيد مؤسسته السياسية والعسكرية والوطنية.
هناك القليل ممن أداروا الحوار الفلسفي حول الحرب وابتعدوا عن مبدأ الخسارة والربح، حاولوا جاهدين أن يضعوا أجوبة لأسباب الكراهية وأجوبة شمولية للنتائج الكارثية على المجتمعات بعد الحرب.
في هذا السياق تحديداً يجعلنا الفيلم الوثائقي أقرب الى الحقيقة من الفيلم الدرامي، فهو عادة ما يستخدم لقطات وصوراً من واقع الحدث، إضافة الى المتحدثين الذين يدعمون فكرة الفيلم، ورغم تأثير الفيلم الوثائقي، إلا أن الدراما لها سحرها الخاص وأبطالها الذين نميل لتصديقهم رغم (كذب) السيناريو أحياناً، وبهذا يتنافس أصحاب الآراء لجذب أكثر النجوم شهرة لطرح أفكارهم وإقناع الرأي العام بأحقية وصدق معتقداتهم.
أين نحن مما ذكر؟
بالمقابل، كان الإنتاج العربي خجولاً باستثناء ما قدمته السينما المصرية عن حرب تشرين (أكتوبر) ١٩٧٣، وكالعادة كانت هذه السينما تتجنب إظهار المعارك الضخمة لأن ميزانية تنفيذها عالية جداً، يضاف إلى ذلك أن المتخصصين في إدارة هذه المعارك للسينما نادر جداً في مصر. وبالحديث عن سينما الأفلام الحربية، لم نشاهد عملاً عربياً واحداً يسلط الضوء على نتائج الحرب او انعكاساتها، وهو الأمر الأهم، على العكس من الفيلم الغربي الذي يمتلك هذه الحرية وحسب قناعة المنتج، دون أن يوضع في دائرة الاتهام بالخيانة والعمالة، فنرى في الفيلم الأمريكي أبطالاً مدمنين وقتلة بسبب المشاركة في الحرب. الأبطال هناك في تلك السينما التي لها تاريخ، وعلى أساس تاريخها تتحرك الشخصية برسم واضح ما يجعل المتلقي قادراً على فهم سر المتناقضات في العمل وهذا ما يجعله جذاباً ومشوقاً.
صعلى حدودنا الملتهبة
في العراق وفي فترة الثمانينيات من القرن الماضي، أُنتجت أفلام حربية عدة أشهرها (الحدود الملتهبة) إخراج صاحب حداد 1985 و (المنفذون) إخراج عبد الهادي الراوي 1985، و كالعادة كان الرأي الأوحد هو صوت السلطة السياسية، بغياب المنتج الحر والإرادة الحرة والديمقراطية، ولم نشهد او نشاهد عملاً يناقش ويلات الحرب العراقية الإيرانية، بل حتى بعد انتهاء الحرب لم يجرؤ أي عمل أن يناقش هذه المسالة، في حين كان للمسرح رأي آخر، ولاسيما عند الكاتب الكبير (فلاح شاكر) الذي شاكس مرحلة ما بعد الحرب وأرضى ذوق العامة والخاصة في طرحه المسرحي الحر.
في الجانب الآخر كانت السينما الإيرانية تضخ عشرات الأفلام دون توقف للسينما المحلية والعالمية حول الحرب العراقية الإيرانية، وكانت، وعلى طريقة العمل المصري، تمجد الجيش الإيراني دون أن تلتفت الى أبعد من هذا، وبالطبع هذا ما تفعله السينما الهوليودية، ولكن باحتراف مكتوب وإخراج مقنع. ومع تقادم الزمن وانتهاء الحروب تظل المشاهد الحية (الوثائقية) هي من تخبرنا حول كارثية الحروب، فـ (صور من المعركة) التي كان يبثها التلفزيون العراقي ما زالت عالقة في أذهان العراقيين، وهي افضل وسيلة دفاع عن إنجازات القيادة السياسية العراقية الدكتاتورية في وقتها ضد إيران، ومن ثم أدركنا أن الطرف الآخر كان يستعمل نفس الأدوات باستثناء أنها بقيت محفوظة وشاهدة الى يومنا هذا، على العكس من أرشيف العراق الذي تبخر.
ما يحسب للسينما الإيرانية أنها تسلقت دور السينما العالمية وحضرت بقوة في مهرجانات مهمة، بالمقابل لم تعد في بغداد دار واحدة للسينما صالحة للعرض.
عبد الله والجندي رايان
بالعودة الى الجندي رايان والتفكير بحقيقة السيناريو، وهل أن للحادثة أثراً وحقيقة في سجلات الحرب العالمية الثانية، أم أن الكاتب (روبيرت رودات) قد اختلقها بمخيلة فذة، نجد أن قوات مكافحة الإرهاب والحشد الشعبي الذي وقع على عاتقهما العبء الأكبر أثناء معارك تحرير الموصل والمنطقة الغربية من ثعابين داعش، قد وجدوا (رايان العراقي) هناك، رايان هو طفل نجت أمه هرباً من موقع الشباك الدامي، وظل طفلها عالقاً في بيت مدمر، (راياننا) هنا هو الطفل الرضيع (عبد الله) الذي كان ملقىً على الأرض بعيداً عن الجميع وقريباً من نظرات عيون حائرة، تائهة بلا نتيجة مرجوة او بارقة أمل، حيث القلوب حينها كانت قد بلغت الحناجر، وتكلفة الوصول لإنقاذه قد تكلفهم حياة المنقذ او المنقذين.
ولكن لا بأس إذا كان الموت قد كتب علينا، إذ هي معركة فاصلة، وليحدث بعدها ما يحدث، ولينطلق أحدهم.. والآخر يسانده، وبين نيران القناصة يصاب بطل المعركة، السيناريو هنا حقيقي ليس فيه من الخيال إلا حجم غيرة العراقي، وهو يسمع صراخ أم الطفل على ولدها، والمسافة تبعد شارعاً واحداً فقط بحكم الأمتار، ولكنها أشواط بحكم وحجم النار المسلطة في الشارع بما يجعله جحيماً لا يتصور، وليتطوع شاب آخر لإنقاذ الطفل..
يعبر الشارع بأقصى سرعته..
ويدخل البيت..
البيت قد هدم..
لكن مشيئة الله تفرض أن يبقى على قيد الحياة..
يسمع صراخ الطفل..
يذهب اليه..
يحمله بين يديه كأب له..
وهنا..
تأتي مهمة المحافظة عليه سالماً وسط هذه المعركة الطاحنة، وكيف له أن يجري بالطفل؟ وما الذي قد يحدث؟ يتوكل (عباس) على الله ويرفع عينيه الى السماء وكأنه يستذكر كل ما وعته ذاكرته وموروثه حول (عبد الله الرضيع) الذي يجب أن لا يموت ثانية، ومعادلة الحق والباطل ذاتها، ومخبراً إيانا في ذات الوقت أنه قد تجاوز مرحلة المحافظة على نفسه، فهو يحمل أمانة بين يديه.
يحاول عباسنا أن يركض..
ثم يتردد لكثرة النيران..
ينطلق عبر الشارع متوجهاً الى سيارة الهمر المعطوبة ليختبئ خلفها..
وهناك يجلس القرفصاء ..
محتضناً الرضيع عبد الله الذي لم يبكِ رغم هول المشهد.. ربما لأنه أحس حينها بالأمان الصادق.
والأهم.. أن المسافة نحو الرفاق أصبحت أقرب وأكثر أمناً (بحسابات الورق لا الواقع)، وهناك أيضا توجد الأم التي تشاهد كل ما يحدث.
عباس مازال في وضع القرفصاء يتحرك ثم يركض..
ينبطح.. ثم يزحف.. وسط تكثيف الجهد الناري المعادي باتجاهه..
يستتر ببقايا أكوام أحجار منحنياً ومحتضناً عبد الله..
يتبادلان النظرات.. فما هي إلا خطوة واحدة.. ومن ثم النجاة..
وخطاها..
ونجيا..
ليصل نحو الأم ويسلمها رضيعها.. وليتكئ بطلنا بعد ذلك على كتف أحد رفاقه المقاتلين تنفساً للصعداء، ولتأتيه أم عبد الله بلهفة فتقول له: “ما جبت مميته ويا”..؟؟؟
تقصد رضّاعة الحليب، وليبتسم الجميع برغم هول المشهد، فهي لم تدرك أن بين الحياة والموت كانت أمتار شارع، ولتذهب الأم بعيداً مع النساء والعوائل التي أمن وجودهم رفاق عباس الذي ظل متكئاً دون حراك على كتف رفيقه الذي انتبه على رطوبة لزجة في شق من ملابس عباس، فيتلمسها وسط الغبار الكثيف وإطلاقات النار الكثيفة، ليكتشف نزف عباس وجرحه الغائر في خاصرته، وما هي إلا دقائق ويسلم عباس وجهه وروحه لله مؤدياً أمانته.
أم عباس لم تقتنع -الى اليوم- بأن ابنها الأوحد قد مات، لذا فقد سكنت المقبرة وبنت لها غرفة من جريد النخل عند قبر عباس لا تفارقه أبداً، تغسل القبر كل يوم، وتعد لعباس ثلاث وجبات طعام، وهي ما زالت حتى اليوم تدعو أن ينصره الله على القوم الظالمين، وتتحدث معه عن ابنة خالته وكيف أنها مازالت بانتظاره، وأن العرس سيكون ثلاثة أيام ولن يمنعها أحد ساعتها من الرقص في زفته، ومكلمة إياه مشترطة عليه أن يكون اسم ولده البكر (الحر).. وما زالت أم عباس تتحدث معه حتى هذه اللحظة معتقدة أن عباس سينهض صباح اليوم التالي من قبره كطائر الفينيق.
من الرابح من لعب الموت؟
بينما الشعوب تتقاتل وتموت، وإذا بتجارها يبدعون في نشر الموت والخراب بطرقهم الربحية، هناك لعبة تتيح لمريديها اختيار أدواتها وأسلحتها وجوانبها، التي بإمكانها أن تضع ستراتيجيات المعركة كي تفوز بمخططاتها التي يدفع ثمنها المعدمون والأبرياء، إنها (الفجر الدموي)، لعبة يتسلون بها ويضحكون على عقول رضيت أن تكون رماداً لحرب استنزفت خيرة شباب شعوبهم.. وما زلنا بفعلهم وقلة الوعي واستيعاب ما يحيطنا ننقم على الاخر بسبب دين او مذهب.. وما زالت لدى الجميع الرغبة بأن تكون كل شعوب الأرض على وجه واحد من الاعتقاد والتوجه وهذا ما يهيئ الأرضيات الرخوة للاقتتال.
النتائج لم تقتل عباساً فقط، بل قتلوا ابنة خالته التي سيطويها الألم وتذبل كما ذبلت آلاف نساء العراق، وقتلت أمه التي مازالت تكلمه إلى اليوم في شرود ذهن لا تستحمله الجبال.
أم عباس.. نموذج بسيط لتبعات ثلاث حروب حمقاء ودواعش ظلاميين..
فهل من عاقل متعظ؟؟