مدخـــل إلــى عالـــم ماتريكس (المصفوفة)

281

د. جواد بشارة /

بعد تحرر صالات العرض من الحظر الصحي، يأتي نموذج للعرض التجاري انتظرناه طويلاً.
Matri Resurrectionsفيلم (ماتريكس القيامة)، أو الانبعاث، هو الجزء الرابع من هذه الملحمة السينمائية التي اختلفت آراء النقاد الأميركيين والفرنسيين بشأنها بسبب جانبها (الماورائي)، أو بسبب منحاها الميتافيزيقي.
في مقابلة للثنائي (فاكوفسكي) مع نيويورك تايمز عام 1993 حينما كان العمل جارياً على سيناريو «ماتريكس»، يقولان فيها إنهما يحضّران عملاً عن «شيء» جديد يسمى «الإنترنت». فسّرت «التايمز» وقتها لقرائها أنّ الإنترنت هذا هو «شبكة عالمية كثيفة بشكل لا يصدق مكونة من 1.7 مليون جهاز كمبيوتر، ستكون مغامرة التكنولوجيا التالية». والنتيجة كانت مذهلة، إذ لا يوجد بالفعل نص مؤسس لحقبة الإنترنت في كل إنتاجات الثقافة الشعبيّة أكثر من «ماتريكس»، فكأنّه نسخة بصريّة من كتاب مقدّس للتائهين في متاهة العالم السيبيري. يسجّل «ماتريكس» ذلك المنعطف التاريخي على لسان (مورفيوس) متحدثاً إلى (نيو) وهما في صحراء الواقع القاحلة في القرن الثاني والعشرين: «لم تكن لدينا سوى أجزاء وقطع متفرقة من المعلومات والمعارف، ولكن في مرحلة ما في أوائل القرن الحادي والعشرين، البشرية جمعاء اتحدت في الاحتفال، لقد أطلقنا وقتها الذكاء الاصطناعي، وهو مستوى وعي فريد سرعان ما خلق جنساً كاملاً من الآلات الذكيّة. لكن الآلات طورت نفسها وحكمت البشر وصارت تزرعهم في مختبرات عملاقة وسجنتهم في (المصفوفة الماتريكس) عدا قلة قليلة من البشر تحررت وشكلت المقاومة البشرية ضد هيمنة الآلات.»
The Matrix أو (المصفوفة)، هو أحد تلك الأفلام التي حددت جيلًا كاملاً وأثرت فيه، لقد غيرت الكثير من الأشياء في طريقة صنع السينما من خلال ركل عش النمل. لم تكن أفلام الحركة والخيال العلمي هي نفسها أبدًا بعد إصدار الجزء الأول من الفيلم في عام 1999، فمن الواضح أن هناك ما قبل وما بعد فيلم (المصفوفة ماتريكس The Matrix). لذلك، مع توقعات كبيرة، عرض فيلم (ماتريكس القيامة أو الانبعاث) في عرض خاص للنقاد
Matrix Resurrec tions المصفوفة.. الانبعاث ، قبل عرضه التجاري في 22 كانون الأول من عام 2021. وقد انقسمت ردود الفعل الأولى تماماً بشأنه مع جزء من الصحافة التي أحبته وروجت له، وجزء آخر أقل اقتناعاً بفيلم المخرج الذي تحول إلى امرأة لانا فاكوفسكي Lana Wachowski، إذ تؤاخذ على الفيلم كثرة مراجع التعريف الثقافية والفكرية والفلسفية. ومن المفارقات، أن البعض قد أحب هذه المراجع الوصفية، لكن بعضاً الآخر يجدها مصدر إلهاء. ومع ذلك، فإن الجميع مندهشون تماماً من الصورة المرئية للفيلم وتقنيته العالية.
إجمالاً، أعربت الصحافة الفرنسية عن تقديرها للفيلم، باستثناء بعضها. لكن أولاً، شاهده بعض النقاد وأحبّوه بسبب الموضوعات التي يغطيها، ولم تزعجهم طروحاته الميتافيزيقية التي اعتبرها البعض، على العكس من ذلك، أنها أمر أساسي للفيلم.
لقد جرى التغلب أيضاً على رتابة السياق بسبب جدية وصعوبة الموضوع، ويؤكد النقاد أيضاً على (الموضوعات القوية) التي عالجها الفيلم، ووجدوا أن الفيلم “جرى تفكيكه ليعود إلى الأساسيات بشكل أفضل.” ويعيد ذلك اكتشاف الملاحظات الجوهرية التي حفل بها فيلم آخر من نفس النوعية وهو (السحاب الأطلسي Cloud Atlas.)
فهنا، تكون الفوقية إلى حد ما مرضية، وبالنسبة لي فإن هذا التتمة “رائعة في الطريقة التي نتفاعل بها مع الملحمة ورموزها وشخصياتها، مع أصداء كبيرة للأفلام السابقة، أي الأجزاء الثلاثة السابقة، عن طريق الفلاش باك أو العودة إلى الماضي، التي تخدم القصة، حتى إذا كان الأمر مخادعاً من الناحية المرئية في كثير من الأحيان.” من ناحية الصحافة الأميركية، نلاحظ الأمر نفسه أيضاً، فالجمهور منقسم إزاء الفيلم وفهمه، وبعضهم يكافح حتى يفهمه بشكل كامل في الوقت الحالي: “فاجأني الفصل الأول من الفيلم بتألقه، أحببت كثيراً المؤثرات الخاصة في الفيلم.” “أحتاج إلى رؤيته مرات عدة للتوصل إلى الحكم النقدي النهائي.” فهو إضافة قوية لمحتوى أجزائه الثلاثة السابقة، وهو أمر أقرب إلى الامتياز الإيجابي! كان لدي شعور بأن “المفهوم سوف يفسح المجال لنوع آخر من المنحى الفلسفي والتساؤل الوجودي. ومن المؤكد أن المخرجة، أو المخرج، وجدا الكثير من الطرق الذكية لمواصلة القصة مع تطوير مفهوم المصفوفة The Matrix الذي جرت معالجته سابقاً. غالباً ما يظهر الجانب الماورائي كتوبيخ، ولكن ليس بطريقة عدمية رائعة”.
كان هذا الجزء هو الأكثر متعة من المكملات الأخرى السابقة. لقد تعثر في المدخل، كما هو الحال في التجارب السابقة لكن هناك إيماءة معرفية تحيط بكل شيء. القادمون الجدد لشخصيات (المصفوفة) مثل (نيل باتريك هاريس) و(جوناثان جروف) هم المفتاح، “فهذه الشخصيات الجديدة تدرك تماماً وجودها، وتتقبل السخرية من نفسها كثيراً، إنها ثقيلة جداً على قصة الحب المعروضة في الخلفية بين (نيو) و(ترنيتي)، مع عدم وجود الكثير من الإثارة والتأثيرات، وهو ما يريده الناس، وأفضل إضافة كانت شخصية (جوناثان جروف)، ولكن هذه مجرد حياة في هذه المرحلة. عندما دخلت في عرض فيلم (ماتريكس القيامة) أو (الانبعاث وعودة الأموات)، كانت في رأسي عشرات النظريات، ولم يكن أي منها على صواب.”
أول جزء من الفيلم شوّه ذهني بتألقه، أحببت أشياء كثيرة في الفيلم، لكني بحاجة إلى رؤيتها مرة أخرى للحكم القاطع بشأنها وربطها بما سيلي، فنحن جميعاً متشابهون في عيني لانا فاكوفسكي Lana Wachowski وما لديه ــ لديها من أفكار وطموحات، لكننا في الأساس نشعر بالدفء كثيراً في ما أحببناه من قبل، ويبدو أنه لم يجر إخبارنا كثيراً بالجديد، ولا توجد قضايا جديدة، ولا قصص جديدة حقاً. الشخصيات التي لعبها (جادا بينكيت) و(نيل باتريك هاريس) مؤلمة إلى حد ما، وأنا لا أتحدث حتى عن هذه الحوارات القليلة التي تتحول أحيانًا إلى رطانة مقصورة على فئة معينة، التي جرى الاستهزاء بها كثيراً بالفعل في الجزءين 2 و3، للفيلم. من ناحية أخرى، عندما يتعلق الأمر بالمفاجآت الجيدة، فإن الثنائي (جوناثان جروف) و(يحيى عبد المتين) يبليان بلاءً حسناً في شخصيتي (سميث ومورفيوس الجديد)، ما يجعلك تنسى المظهر الخفي والمحرج إلى حد ما للشخصية التي أداها الممثل الفرنسي (لامبرت ويلسون)، التي هي امتداد لشخصيته في الأجزاء الثلاثة السابقة. من الطبيعي أن الفيلم سيقسم ويخيب الآمال بشغف، ولاسيما في طريقة السرد، وربما كان ذلك أفضل، إنه الفيلم الكبير المجنون الذي يفكك هوليوود، القفزة الأخيرة في بئر (أليس في أرض العجائب)، والتكملة النهائية للسيطرة على (المصفوفة). إنه فيلم جميل، مليء بالعواطف، وهو قوي! حتى بعد مرور عقدين من الزمان على أجزائه الثلاثة السابقة، إذ تمكنت المخرجة من التوقيع على تكملة ليست منطقية فحسب، بل إنها تناولت موضوعات إنسانية وضرورية لـلمصفوفة Matrix، ومع هذا الجزء من الفيلم فإنها ستترك صدى سوف يسجل في تاريخ سينما الخيال العلمي!