مظفر النواب شاعر الثورة والتمرد والتحريض

1٬410

زكية بن خذير/ 

الكتابة عن مظفر النوّاب تضعنا دائماً بإزاء كثير من التحديات، فمن جهة غزارة منتوجه الشعري وقيمته الثورية وقيمة هذه الكتابات في الموروث الشعبي والفكري، ومن جهة أخرى هذا التهميش الذي جُوبه به من طرف المؤسسات الرسمية، الأمر الذي يضعنا في ركن الإحراج وجلد الذات والخجل الذي يعترينا تجاه هذا الكاتب الاستثنائي…
وقد عاش النوّاب كما ينبغي أن يعيش شاعر حر بقامته، بعيداً عن البلاط والسلطة عدواً للنظام أينما كان، صديقا للأحرار حيثما وجدوا، رفيقاً للكلمة الحرة والقلم الحر، ولهذا قضى شطر حياته الأعظم مطروداً، مطارداً من الحكومات رغم أنه أحب العراق وحمل هم شعبه بين حنايا قلبه أينما حل وارتحل، قصائده كانت زفرات أهله وآهات شعبه المكتومة، حين تقراً مظفراً فإنك تقرأ ما عانته الشعوب العربية من ويلات ودموع، من هزائم وخذلانات.
وحصد شاعرنا في المقابل حياة معذبة في السجون والمنافي حد صدور حكم بالإعدام في حقه، ذلك أن قلمه وسبابته كانتا على الدوام موجهتين إلى ما نعانيه من ضعف وتشرذم، وإلى خيانة الحكومات واستحذائها لأعداء الأمة، وحتى شعره الوجداني لم يخلُ من ظلال عقيدته الثورية الإنسانية التي حاول البعض أن يؤطرها بإطار آيديولوجي فقط، ولهذا “فقد كان رأسه مطلوباً في معظم العواصم العربية وفي المقابل ظلّ رأسه مرفوعاً عند الشعوب العربية برمتها” حسب قول باسل اللوزي.
يعد مظفر النواب من بين الأسماء العظيمة التي خُلدت وظلت – مع ذلك- ثابتة في الهامش، مظفر لم يتخذ كتاباته سلماً من أجل تسلق الهرم الاجتماعي ولا من أجل أن يظهر في الصورة ويفوز بحظوة في البلاط، فهو من القلّة الذين ظلت كتاباتهم تتماهى مع مواقفهم ومبادئهم وممارساتهم العملية على أرض الواقع، الأمر الذي حدا بكُتاب الصحافة الصفراء الى التربص به لقتله في الذاكرة الشعبية، لكن فاتهم أن الكلمة الحرة تبقى موجودة ومحرّضة على الدوام لا سيما إذا تحررت وغدت فكرة مستقلة بذاتها، مستقلة عن صاحبها وتجسد المقولة الأزلية (الأفكار لا تموت).
ورغم مرور الزمن إلا أن الفكرة واسم صاحبها يبقيان راسخين على الدوام. فمن منا يمكن أن يزيح اسم افلاطون أو ديكارت عن تاريخ الفلسفة رغم أننا اليوم تجاوزنا الفلسفة اليونانية بأشواط، ورغم أن محتواها أحياناً يبعث على الضحك والسخرية، فالحديث عن وجود عالمين: عالم الأفكار والمثل وعالم مادي تبدو – اليوم- فكرة مضحكة، لكن هذه الفكرة ما زالت تفرض نفسها كلما استوجب الحديث عن تاريخ الفلسفة ككل.
الشيء نفسه ينطبق على القصة والرواية، فرواية دون كيشوت ما زالت تمثل رهبة وصدمة فضلاً عن كونها موضوعاً للدرس وللكتابة، أما بالنسبة للشعر، ولنقل الشعر العربي فإن المتنبي ما زال موجوداً كما تمثاله الحجري الشامخ وسط بغداد في الشارع المسمى باسمه ( شارع المتنبي).
عرف النوّاب في بداياته بقصائده المسجلة على أشرطة الكاسيت بصوته، التي كانت تُتبادل في الأوساط الجامعية والحزبية والنقابية كما لو كانت منشورات سرية، ثم جاءت قصيدته “وتريات ليلية” لترفعه الى منزلة شاعر بقامة وطن، اذ لخص فيها أوجاع وطنه ولظى خيانات الحكام لاسيما تجاه القضية العربية المركزية “فلسطين” التي قال فيها “القدس عروس عروبتكم” فصارت عبارته نشيد الثورة من المحيط الى الخليج.
فضلاً عن قصيدته الشهيرة “قمم قمم” التي هجا فيها جلَّ الحكام العرب وقممهم التي يقيمونها بصفة دورية ولا يخرجون منها بطائل، وهي القصيدة التي صدّرت اسمه في رأس القائمة السوداء للمطلوبين لدى جلّ الحكام العرب.
والى جانب قصائده الفصيحة تغنى النواب باللهجة العامية بعدة قصائد لحنت وغنيت في محيطه خاصة، وحتى في نصه المتغني بالحب والوجد كانت القضايا السياسية والوطنية تحتل باطن الأبيات غالباً وظاهرها أحياناً، واستمرت نصوصه صارخة في وجه الظلم مزعجة للأنظمة القامعة للحريات، وكتب وغنى للمسحوقين وملأ الدنيا ضجيجا واقضّ مضاجع الحكام كما يفعل ثائر مغوار رفض أن يرضى بالذل اذ يقول “سبحانك كل الأشياء رضيت سوى الذل”….
وطبعاً هنا لم يفُتْ نقاد السلطة نعته بأبشع النعوت من قبيل أنه مجرد سكير عربيد وفاسق يشحن النص ببذيء الكلام والعبارات السوقية، لكنّ ما يُحسب للنواب انه جعلنا نقبل بالعبارات البذيئة، التي كانت تصور واقعاً سياسياً واجتماعياً مليئاً بالبذاءات.
هكذا هو النواب يكتب بقلم رصاص لا يمحى، كلمات كان وقعها كوقع الرصاص في وجوه المتواطئين والخونة والمتاجرين بمصائر الشعوب، فقد كان وما زال حراً من الداخل، يكتب أفكاره من غير خوف، ضارباً عرض الحائط بالعمود الشعري واستيتيقيا الشعر والأخلاق المجتمعية المقولبة، لكن الثمن كان باهظاً، فالحرية ليست مجانيةً أبداً، وثمنها حياة معذبة وسجن وتهجير وعذابات لا تنتهي، والحق لو أن هذا لم يحصل معه لشككنا في صدق القول والحرف.
كم يلزمنا من مظفر نواب آخر ليواصل صفعنا علّنا نصبح أحراراً ولو بقدر بسيط لنتمكن من الصراخ في وجه الظلم والقهر، ولنضع أصابعنا على موضع الداء، إنه يجلدنا كلنا بلا استثناء ويتفنن في تقريعنا، فالصمت كان بالنسبة له خيانة عظمى مقابل الحيف الذي “يغرق” فيه وطننا العربي “من الماء الماء”.
اليوم ونحن نكتب عنه نخشى أن نبخسه حقه، فأي الألقاب يليق به وأي وسام يستحقه يا ترى، ونحن نعلم أن تكريمه الوحيد هو أن يصل تحريضه الى جعل الإنسان “حراً”، لذا لا يمكن الا أن نسميه “شاعراً ثورياً حراً” اسم يليق به في زمن استعباد الإنسان للإنسان وزمن صعود الدكتاتوريات على حساب الإنسان وحريته،.. حرية النواب بهذا النحو الباذخ تربكنا وتحرجنا، أمام شاعر حاولت الدكتاتوريات العربية قتله، ورفعته الشعوب إلى مرتبة نبي، فلقد تنبأ بما يمر به وطننا العربي اليوم من خرابٍ ودم وحرب، إذ يقول:
“سيكون خراباً
سيكون خراباً
سيكون خراباً
هذا الأمة لابد لها أن تأخذ درساً في التخريب” .