سوق هرج.. فقد أصواته العالية وصار ساحة للغرائب

1٬470

عبد الجبار العتابي /

ليس فيه حالياً من اسمه شيء يذكر، فلا هرج فيه ولا أصوات عالية ولا صخب، بل إنه هادئ الى حد ما، لا تكسر هدوءه إلا أغنيات قديمة يحاول باعتها الإعلان عنها او مناداة البعض المتقطعة وبصوت خفيض عن بضاعته او أحاديث البيع والشراء الجانبية،، لكنه ما عاد يمتلك صفتي الهرج والمرج اللتين التصقتا به وحملهما اسماً له حتى صارت تحمله أسواق أخرى اشتهرت بصخبها،
وقد وجد له مكاناً في الأمثال العامية البغدادية بقولهم (عبالك سوك الهرج)، لكنما السوق صار ساحة للغرائب حيث تباع فيه كل الأشياء الغريبة والتي لا تخطر على بال حتى التي لم تعد صالحة للاستعمال فيما هنالك أشياء تباع بأصغر فئة للعملة!!

مجرد زقاق ضيق

في الدخول إليه، حالياً، ليس هنالك أي شعور بأية متعة، فهو مجرد زقاق واحد ضيق صغير ينزل من شارع الرشيد ومنه يتشعب زقاق أصغر بمحاذاة جامع الأحمدية فضلاً عن فرعين صغيرين جداً، ولكن هذه الأمكنة فيها العديد من المحال التجارية ومنها محال (خان المدلل) للتحف والأنتيكات والتراثيات الذي جدّد بناؤه عام 1992، فضلاً عن وجود الأفراد الذين يعرضون بضائعهم في الزقاق خاصة من باعة (المسبحات)، ناهيك عن المحال على الشارع العام وبعض أصحاب (البسطيات) والساحة الخارجية التي تمتلئ أرضها بالأشياء، ولكن في تأمل أشياء المكان تتألق المتعة التي من أهم حسناتها تنشيط الذاكرة واختزان جديد لأشياء غائبة عن العين، ففي السوق هناك: أنتيكات صوتية، فضّيات، نحاسيات، كرستال، لوحات فنية، صور تراثية، سجاد، ساعات، أحجار كريمة، مسبحات، خواتم، وأخشاب قديمة وعملات وطوابع بريدية ومالية عراقية وأجنبية، أسلحة نارية خفيفة او جارحة جداً (غير صالحة للقتال!! كما مكتوب عليها) فضلاً عن تلك الكاسيتات القديمة التي يسمى الواحد منها (البكرة) وهي تصدح بالأغنيات التي تجتذب إليها عشاق الطرب الأصيل، وكأن هذه الكاسيتات تتحدى الأقراص المدمجة، وفي السوق أيضا هناك مكان يعرف بـ (ركن الكهرب) متخصص بالمسبحات من نوع الكهرب، أما الفرع الصغير فهو خاص بـ (البالات) كما يبدو أنه متخصص ببيع الملابس الرجالية المستعملة فقط، المعلقة على أبواب المحال بكثافة، وفي الفرع خياطون يعملون على ترميم وإصلاح تلك الملابس، لكن اللافت للنظر هو المحال التجارية القديمة والمتهالكة، بسقوفها المقوسة، على جانب جامع الأحمدية، حتى أن تأملتها ستتعجب كيف أن العاملين لا يخافون سقوطها، وفي السوق هناك مسجد (أسماء خاتون) الذي تأسس عام 1967، اذ يؤكد العارفون أن سوق الهرج بشكله الحالي لم يكن فيه أي بيت للسكن، فإنهم يؤكدون وجود بناء يعود الى بيت محمد شكري البمبيلي وهو بصراوي، بناء بطابقين من طراز البيوت البغدادية القديمة، هو الآن آيل للسقوط، استملكته أمانة العاصمة.
يقول أبو إيمان، وهو أحد أصحاب المحال القدامى في السوق،: رغم الشكاوى التي قدمتها في الصحف العراقية

بضرورة الاهتمام وأخذ الاحتياطات من هذا البناء القديم الآيل للسقوط في أية لحظة لكن الأمانة تجاهلت النداء.
ملهى استأجرته لميعة توفيق

أما البيت الركن الذي أعلاه آيل للسقوط، فهو في الأصل ملهى كانت تغني فيه السوريات والعراقيات والأردنيات ثم أستأجرته المغنية لميعة توفيق قبل أن تتركه لأختها ثم لا يعرف أحد مصيره إلى أين.
أما خارج المكان، في الساحة الواسعة أمام سياج جامع الأحمدية، فهناك يباع كل شيء عتيق ومستهلك حتى الأحذية الممزقة، وأسعار البيع غاية في الرخص، حيث تصل الى سماع الكثير من الباعة يتنادون على بضاعتهم بـ (حاجة بربع) أي بربع ألف دينار (250) ديناراً فقط وهي العملة الأصغر حالياً في العراق. يذكر بعضهم أن هذا المكان كان مجمعاً للّصوص والمحتالين والمعدمين الراغبين ببيع ما لديهم أو شراء ما يحتاجون إليه من البضائع، الحرام أو الحلال.

200 سنة

يعد سوق الهرج من أشهر أسواق بغداد القديمة بمكانتها ومعروضاتها المتنوعة، ويذكر المؤرخون أن هذا السوق تأسس قبل أكثر من 200 عام، وسمّي في حينه بسوق الأحمدي نسبة إلى جامع الأحمدي الموجود فيه الذي بني عام1211 هـ/ 1796م، نسبة الى أحمد باشا الكتخذا نائب سليمان باشا الكبير، ويسميه بعضهم (جامع الميدان)، وبعد عقود من الزمن تبدل اسمه إلى سوق الهرج.

يقع في مركز مدينة بغداد شمالي شارع الرشيد، ويقال إنه كان يمتد من ساحة الميدان حتى سوق السراي، وتعود التسمية هذه إلى أواخر العهد العثماني، وبالتحديد في زمن الوالي حسين ناظم باشا (1854 – 1927) الذي كان عهده بين 1910 – 1911، وسمي بسوق الهرج نتيجة للأصوات العالية لباعة السوق والمنادية على السلع للبيع والشراء وصخب المقاهي وملاهي الرقص والغناء المحيطة حوله وفي نهايته، ففي السابق كان السوق مختصاً ببيع الملابس بالدرجة الأولى والعباءات و(العكل) الرجالية وكان المنادي يصيح لبيع هذه الأشياء بصيغة المزايدة، وهو ما يحدث نوعاً من الصخب حيث يختلط الكلام ببعضه.

شهرة واسعة

اكتسب السوق شهرة واسعة في بغداد باعتباره من أكثر الأسواق التجارية شعبية حيث تباع فيه البضائع والحاجات المتنوعة ومنها التي لها واقع القدم، ويلقى رواجاً كبيراً أيام السنة كلها وبصفة خاصة في فترات العطل وأيام الجمعة، حيث تتسع دائرة نشاطاته، وازدهر السوق في سنوات العهدين الملكي والجمهوري، لاسيما بعد اشتهاره ببيع الأنتيكات التي جعلت منه مقصد السيّاح الأجانب.

ويؤكد العارفون بشؤون السوق أن فيه تجتمع أشكال وأنواع الصنعات والحرَف التراثية وهو يعتبر بمثابة مسرح استعراضي بكل معنى الكلمة لاحتوائه كل ألوان الحرَف وكذلك بشخصياته المتميزة بتجاربها وخبراتها الكبيرة لمعالجة شتى الحرف ومتطلبات الحياة البغدادية بذكاء معروف.

صورة قديمة

في الصورة القديمة للمكان من الممكن أن نتعرف على تفاصيل عديدة كما ذكرها مؤرخون لبغداد ، ومنها: قبيل الوصول لسوق هرج الحالي يواجهنا (جامع الأحمدية) بإطلالته على ساحة الميدان، يقابله (مقهى خليفة) الذي يواجه (مقهى البلدية) في (محلة البقچة) وخلف الجامع تقع (محلة الپولنچية) يمر بينها وبين الجامع (سوق هرج)، ولدى مرورنا بين (جامع الأحمدية) و(محلة البقچة) يواجهنا (مقهى عزاوي) من المقاهي البغدادية القديمة الشهيرة وموقعه مقابل (جامع الأحمدية). ومقهى عزاوي شعبي شهير اقترن اسمه بالأغنية البغدادية الشهيرة (يا كهوتك عزاوي)، ويعود تأسيسه الى القرن التاسع عشر، ويقع بجوار حمام الباشا، وعلى رأس السوق إلى اليسار وعلى الطريق العام مباشرة (بيت الحافاتي) وينسب لمالكه العالم الفلكي والقاضي الشيخ عبدالحليم الحافاتي كان يشغل منصب الموقت الشرعي في جامع السراي، وقريباً من (جامع الأحمدية) مقابل (حديقة الميدان) نشاهد (مقهى سبع) لصاحبه سبع وهو أشهر قهوچي في بغداد، بعد المقهى يواجهنا (خان المدلل) وقد افتتح فيه (ملهى ماجستك) عام 1917 وبدّل اسمه لاحقاً إلى (ملهى الهلال) بعد أن كان نزلاً (فندق) تعود ملكيته للأسرة البغدادية المعروفة (بيت المدلل)، وكان النزل مشهوراً منذ أواخر العهد العثماني.