أوتار “الساز” ترنّ في القلعة القديمة

384

مها الصافي /

بين لوحات من قلائد التين المجفف، وآنية العسل اللامع، وسلال المكسرات الشهية، ووسط عوالم الماضي المشفوعة برائحة الحناء في سوق القيصرية، ترتفع وتيرة أصوات الموسيقى العذبة والغريبة -بعض الشيء- على من اعتادت أذناه الاستماع إلى الموسيقى الكلاسيكية بالآلات الكبيرة، كالبيانو والجلو والكونترباس، التي تملأ الأسماع بأنغامها القوية، ثمة آلة مختلفة من يكتشف أسرارها يدرك سر تعلق الكرد بها، فهي حاضرة في كل مناسباتهم ودبكاتهم ورقصاتهم.
يعلق (كاكه بكر) آلاته في محله الصغير المغطاة جدرانه ومقاعده بما نسميه (الإزار) ذي المربعات الحمر والزرق. وقد وضع مجموعة من (الكراكيش) الشبيهة بكراكيش المسبحة، لكنها توضع في أسفل نهاية زند (الساز)، وتتدلى من تحت المفاتيح، لتضيف جمالاً آخر إلى جمال صوتها. في محل كاكه بكر الضيق تتسع الأنغام لتحملنا إلى الجبال البعيدة والوديان الخضر وأشجار البلوط الباسقة.
التسمية الكردية
(الساز) هي التسمية الكردية لهذه الآلة الوترية التي تنحدر من عائلة الوتريات، ومنها العود الذي يمتاز بالصندوق الكبير والزند الصغير بطول شبر تقريباً، وهو مزود بخمسة أوتار مزدوجة، وكان الوتر الخامس للعود من إبداعات زرياب، الفنان الموصلي الذي عاش في بغداد في زمن الخليفة هارون الرشيد، وغنى له:
يا أيها الملك الميمون طائره
هارون راح إليك الناس وابتكروا
وبسبب قصر زند العود يكون صوته غليظاً، أما الصوت الحاد فيأتي من الآلات ذات الزند الطويل كالبزق ذي الستة أوتار، وآلة الطنبورة وآلة الباغلاما، وجميعها أسماء لآلات وترية ذات عنق وصندوق، لكنها تختلف بعض الشيء، من حيث الشكل والصوت، فالساز أطولها عنقاً، إذ يصل طولها إلى ثلاثة أشبار نسائية – مثل كفي- وشبرين ونصف شبر رجالية، وكانت تحوي أربعة أوتار ثم تطورت إلى سبعة، وهي مفتوحة من الأعلى لإخراج الصوت فيحار السامع من صندوقها المغلق.
موال حزين
تصنع آلة الساز من خشب التوت، وتستغرق صناعتها نحو شهرين تقريباً، وحينما يبدأ كاكه بكر بعزف موسيقاه على تلك الآلة، أتخيل بعد ذلك أن يقوم مغنٍّ ما بغناء موال كردي حزين، إذ عادة ما تكون أنغام الساز مقدمةً رائعةً لأغنيةٍ كرديةٍ باكية، تقص حكاية جميع العذابات التي مرت هنا.
عن صناعة الساز وسر التعلق بها يقول كاكه بكر:
” هذه الآلة تصنع يدوياً، وهي تحضر دائماً في مختلف المحافل التراثية الكردية ويعشق الكرد، وزوار المدينة والضيوف سماعها، كونها مرتبطة بالإنسان وبالمكان”.
أخذ كاكه بكر مهنة العزف على آلة (الساز) من أبيه الذي ورثها عن الجد، وتعلم بكر العزف عليها منذ صغره حتى أجادها وصار من العازفين المعروفين في قلعة أربيل، حيث بدأ يعلمها لعشاقها الذين يدخلون إلى محله الصغير ويشاركونه العزف الجماعي، فيتحول هذا الجزء من السوق إلى احتفالية موسيقية تجذب الزائرين وتثير فضولهم، فينغمسون في فيض من السعادة البسيطة والأمل بما هو مقبل، ويصف الأستاذ بكر ألحان (الساز) بقوله:
“ألحان هذه الآلة وأنغامها قريبة إلى الشجن والحزن لكنها تغذي النفوس، كما أنها لا تتوقف عند هذا الحد، بل نجدها سفيرة للكرد في النشاطات المحلية والعالمية”.
منذ ثلاثين عاماً يعزف كاكه بكر على آلة (الساز)، التي تعد من الموروثات المهمة، بالإضافة إلى إجادته العزف على آلات موسيقية أخرى كالعود والدف، وتجتذب موسيقاه المستمعين من جميع الأعمار، وبخاصة الأطفال الذين يجدون هنا فرصة ثمينة للرقص. ومثلما تعزف أصابعه على أوتار الساز، كان يمارس رياضة الجمناستك، حتى أصبح لاعباً محترفاً في المنتخب الوطني العراقي للجمناستك، وقد عرض علي صورة قديمة له وهو يقفز من سطح سيارة كبيرة إلى الأرض وسط حشد من النظارة والمعجبين.
الساز آلة موسيقية سومرية
تشير المصادر أن آلة الساز الوترية تتشارك فيها مختلف الثقافات في شرق البحر الأبيض المتوسط، والشرق الأدنى، ومنطقة آسيا الوسطى. ويشار إليها أحياناً باسم باغلاما، والساز مأخوذة من ساز الفارسي، وهذا يعني طقم أو مجموعة، ومصطلح “الساز” يشير إلى عائلة من الآلات الوترية المستخدمة في الموسيقى الكلاسيكية العثمانية والتركية الشعبية والآذرية، والكردية والآشورية، والموسيقى الأرمنية، كذلك في أجزاء من سوريا والعراق ودول البلقان. وقد تم العثور على أدوات تشبه (الساز) في الحفريات الأثرية السومرية والحثية وفي الأعمال اليونانية القديمة، وطالما وجدت آلة الساز في الحضارتين السومرية والحثية. وتحظى هنا -في أربيل- بمكانة مرموقة بين الآلات الموسيقية الأخرى فوجدت لها مكاناً مميزاً في المواويل والأغاني والدبكات الكردية. ويبدو أن آلة الساز التي كان يحتفل بها الفنان الكردي في أغانيه القديمة ستبقى حاضرة في الغناء الكردي الحديث أيضاً.
يختتم كاكه بكر كلامه:
“على أنغام هذه الآلة الموسيقية التراثية الكردية تتقارب الشعوب والمجتمعات من خلال لغتي الفن والجمال اللذين ينبضان منها”.