الأقدار تصنع نجماً وتنهي آخر!

337

عادل مكي

كثيراً ما تلعب الصدفة دورها في حياة الإنسان، فأحياناً ينجو من الموت او يحقق نجاحاً ويتغير مصير حياته بشكل كبير، وكثيراً ما لعب الحظ لعبته ليغير مسار العديد من النجوم. وعندما يعاند الحظ فإنه يعبس أيضاً بوجه المثابرين والمجتهدين فيقف عقبة في طريق نجاحهم، رغم مؤهلاتهم وقدرتهم وتجربتهم العميقة.
لا غرابة في أن هذه الحياة ترسم لك عكس ما تتمنى أو تطمح أو تريد، والقصص أكثر من أن تروى وفي شتى ميادين الحياة.
فكم حلم كثيرون أن يصبحوا طيارين أو مهندسين او أطباء، لكن الاقدار فعلت فعلتها ورمتهم في طريق آخر لم يختاروه أو يفكروا به.
مع سيدة الغناء..
حدث هذا مع سيدة الغناء العربي أم كلثوم حين جاءت من قرية الدهقلية لتغني لأول مرة وهي طفلة صغيرة في شارع محمد علي بالقاهرة، فقد وقفت في سرادق كبير بحي المناصرة وهي تستعد للغناء، وكان السرادق يغص بالجمهور الذي ينتظر أن يستمع لهذه الطفلة القروية التي كانت ترتدي العقال والملابس الريفية، ولم تكد تبدأ في غناء وصلتها حتى اشتعلت معركة حامية الوطيس بين فتوّات تلك المنطقة سقط فيها الكثير من الجرحى، وحاولت الطفلة وأبوها الهرب والبحث عن مخرج للنجاة بعدما توافد رجال الأحياء القريبة لفض الاشتباك، وكان من بين الذين جاؤوا لفض هذا النزاع شاب لاحظ تلك الطفلة وهي تحاول الهروب، فأشفق عليها وحافظ عليها في زاوية آمنة كي ينجلي غبار تلك الواقعة، فطلب إليها ألا ترحل وأن تغني في هذه الليلة، ثم استقر الوضع وبدأت بالغناء حتى سحرت كل الحاضرين الذين أعجبهم غناءها بعد إعجابهم الشديد بصوتها، ثم قام هذا الشاب وكتب معها عقداً للغناء في حفلاته، بعدها ساقها القدر ليضعها على جادة الانتشار فصارت أهم وأشهر صوت عرفه الفن وكوكباً للشرق.
أحمد شيبة
وفعلت الصدفة لعبتها مع كثيرين، منهم “أحمد شيبة” صاحب أغنية (لعب الزهر) وغيرت حياته بالكامل، وسعد الصغير وعبد الباسط حمودة وشعبان عبد الرحيم، الذين ساعدهم الحظ ليصلوا الى نجوميتهم.
نجوم العراق
الصدفة في العراق كان لها نصيب كبير في تحويل حياة العديد من الفنانين من العدم الى النجومية، وكنت شاهداً على تلك الحوادث التي سأسردها هنا من باب التوثيق للتاريخ وبكل أمانه.
باسم العلي
الفنان باسم العلي لم يفكر قط في أن يكون مطرباً، بل كان يحب أن يصبح ملحناً لأنه يجيد اللعب والإتقان في فن التلحين، وله تجارب لحنية متعددة، لكنه كان يغني بين المقربين والأصدقاء في جلسات خاصة، وفي يوم ما طلب مني أن نسجل شريط كاسيت لمجموعة من الأغاني التي كتبتها له ولحنها هو هدية لحبيبته التي طالما طلبت منه ذلك، جلبنا جهاز تسجيل نوع “شارب ذي الكاسيتين” وبدون “مايكرفونات” لأننا اعتمدنا على مايكات المسجل البسيطة، وقد وضع باسم حاجزاً بيني وبينه عبارة عن وسائد كوني سأقرأ شعراً مع مقدمة تعريفية بصوتي مع الإهداء، ولم تكن لدينا طبلة او إيقاع فتناولت أحد جرارات مكتبه الخشبية لاستخدمها كطبلة وسجلنا الشريط، هو يغني وأنا أعزف، وكانت أغنية (ليش يفتونة) إحدى أغاني هذا الكاسيت، وخوفاً من ضياع هذا الشريط المهدى الى حبيبته لأنه من المستحيل إعادته إلينا، قررنا إرساله بيد أحد الأصدقاء ليقوم بطبع أكثر من نسخة في أقرب تسجيلات صوتية.
وعلى ما يبدو فإن صاحب التسجيلات قد احتفظ بنسخة من الشريط بعد أن استهواه سماع تلك الأغاني، وبعد تواطؤ صديقنا -سامحه الله- معه لأنه يبدو أنه لم يأخذ منه ثمن تلك الأشرطة المستنسخة.
بعد يومين اتصل بي المرحوم حميد العبودي، صاحب التسجيلات المعروف، وعم الدكتور حكمت البيضاني قائلاً لي “عمي كاسيتكم كالب الدنيا، الشارع كله يغني (ليش يفتونة)، جهزوا حالكم انت وباسم العلي سنقوم بإعادة التسجيل مع فرقة موسيقية كبيرة ولنفس الأغاني.”
وفعلاً سجلنا الأغنية بعد أن أقنعت باسم العلي، الذي بات مرغماً أمام الأمر الواقع في أنه اصبح مطرباً مطلوباً في العديد من الحفلات، أي أنه بحسابات اليوم (ترند) الشارع العراقي.
لقد لعب الحظ والقدر والصدفة في حياة باسم العلي بعد تسجيله شريط كاسيت وصل إلى أسماع الجمهور بدون تخطيط او حسابات فنية معينة، وبين ليله وضحاها صار حديث الشارع لسهولة المفردة والجمل اللحنية التي استخدمها في أغاني ذلك الشريط “القنبلة.”
وللفنان علي محمود العيساوي حكاية أتذكرها جيداً، فقد جاءني أحد المقربين منه وجلب معه شريط كاسيت يغني فيه العيساوي بدون موسيقى مواويل مختلفة، وبصراحة أعجبني صوته وأدركت لحظتها أن فيه شيئاً قد يكون له شأن، وبعد يومين جاء صديقة من جديد وقال لي “أستاذ تعال انظر الى الجهة المقابلة أمامك،” وكان يفصلهما شارع عدن ذو الممرين، حيث يقف هناك يقف علي العيساوي على رصيف الجهة الثانية فطلبت منه أن يقترب كي أراه فقال لي “أستاذ، علي يخجل منك لأن يده كانت مكسورة (مجبسة) وكان شعر رأسه حليقاً فطلب مني أن أقول لك هل باستطاعتكم تسجيل كاسيت له؟” فقلت له أني معجب بصوته، لكن الأمر
يتعلق بصاحب المحل (تسجيلات حكمت) -حكمت البيضاني- فهو صاحب القرار، لكني سأعمل جاهداً على إقناعه علّه يوافق، وذهب علي العيساوي مع صديقه بانتظار الرد. طرحت الأمر على الأخ حكمت البيضاني، فلم يوافق لحسابات فنية عديدة.
قد يكون هذا الرفض هو سبب إصرار علي العيساوي على إثبات نفسه كمطرب له طموحات كبيرة. وفي ليلة وضحاها ذهب العيساوي الى صاحب محل تسجيلات كان في وقتها أبسط محل في تلك المنطقة إذ لم يكن يمتلك سوى جهاز مسجل (قيثارة او رايزنك) وأجهزة أخرى بسيطة للغاية، جلبوا جهاز (مونتربوا) الخاص بالحفلات وجرى التسجيل خلاله عبر ربط (الرازينك) بـ (اوت) من (المونتربو) مع جهاز أورغ واحد فقط عزف به العازف علي عبد النبي، وهنا توقف الزمن (صدك مخطوبة يفلانة صدك باجر يزفونج)، هذا الموال الذي جعل من علي العيساوي (ترند) العراق تتهافت عليه العروض والحفلات وأصحاب التسجيلات، وصار علي العيساوي رقماً صعباً في ذلك الوقت، وهنا أسأل: هل الحظ أم القدر أم الإصرار لعب لعبته وقلب كل الموازين لصالح الفنان العيساوي.
لعبة الأقدار
أما الفنان الراحل ضياء حسين فقد كان طفلاً صغيراً في فرقة الأطفال للراحل يحيى الجابري، وصادف أننا كنا في قاعة بأحد النوادي الشبابية في منطقة الشعلة لتسجيل شريط كاسيت للفنان باسم العلي، وجاء مع كورس أطفال هو وباقي الأطفال الذين كانوا يصاحبون المطربين في الغناء، ثم قالوا لنا إن الطفل ضياء حسين يغني أغاني منفردة. اقتنع صاحب التسجيلات بالأمر وطلب من الفرقة التي كانت ترافق المطرب بالعزف له لأغنية واحدة فقط، لأنه سيسافر خارج العراق ليلاً.
وجرى الامر، فصرنا جميعاً كورساً له، وكانت الأغنية التي جعلته مطربا (هيج انتِ حلوة). بعد إكمال التسجيل ذهب كل منا إلى حال سبيله، إلا صاحب التسجيلات، فقد قام بعرض الأغنية على جهاز مكبر الصوت فكانت المفاجأة أن تزاحم الناس أمام باب تلك التسجيلات لسماعها، ومن ثم شرائها.
وخلال أسبوع أو أقل اصبحت الأغنية بالقياسات الفنية (ترند) ومن تلك اللحظة أصبح ضياء حسين مطرباً قدم العشرات من الأغاني الجميلة.
كذلك الحال مع الفنان مهدي العراقي، الذي حاول تسجيل أكثر من أغنية، لكن لم يكتب له النجاح. التقيت به ذات مرة كي أقوم بتسجيل شريط آخر علّه ينجح بعد أن أصابه الإحباط، وقد كانت فرقته ضعيفة الإمكانيات الفنية: عود وطبلة وكمان، قلت له “اسمع يا مهدي انت تجيد غناء طور اجبير ال كون، لم لا نجعل الشريط مواويل فقط؟” فوافق وخرج الشريط إلى الناس وهكذا، ومن خلال هذا الكاسيت أصبح مهدي العراقي مطرباً معروفاً رغم فقر الإمكانيات الفنية التي توفرت له.
من خلال ما تقدم.. اتضح لي أن الحياة يلعب فيها الحظ والقدر والصدفة كيفما تشاء، ربما تخطط لأمر ما لكن القدر قد يخذلك او يحقق مبتغاك، لكن في غير التوقيت الذي رسمته، هذه هي الحياة وتلك هي دورتها حينما تدور بالسلب أو الإيجاب .
نعم، أقدارنا مقدرة عند مليك مقتدر، قد تخيب او تصيب، او كما قالت العرب :
ربما تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن.