رحل سعدون العبيدي وبقي وهجه في ذاكرة المسرح

248

محسن إبراهيم – تصوير: صباح الإمارة

حين نفتش في ذاكرتنا ونهرب الى زاوية كي نلوذ بالصمت وعزلة الشيخوخة والمرض ستصرخ بنا أسماء ومواقف وذكريات، أجيال كانت توأماً للإبداع لجأت الى الصمت، كما ذاكرتنا، أسماء حلقت في سماء الفن العراقي، وشيدت ركائز المسرح، رسخت التعابير الإنسانية وأسست لفضاء المشهد الفني، هكذا كان سعدون العبيدي.
سعدون ظل حاضراً في ذاكرتنا التي احتفظت بلقائه حين دعانا -في أحد الأيام- الى منزله بحي الدورة في بغداد، وما إن وصلنا حينها وفتحت لنا أبواب المنزل حتى شممنا عبق تاريخ بهي، استقبلنا بابتسامة تقطر عذوبة ورقة، هي ذات الابتسامة التي ظلت مرسومة في ذاكرتنا عندما كنا نتابعه من على خشبة المسرح وشاشة التلفاز وهما تشعان حباً وأملاً، وما إن يسقط نظرك على جدران منزله حتى تبهرك لوحات فنية وتماثيل من حجر ابتدعتها أنامل عشقت الفن بكل أشكاله.
وبالرغم مما تركته السنون من أثر متعب عليه، إلا أن المسرح كان يعيش في داخله، واضعاً بصمات من وهج الفكر والإبداع تأخذنا إلى مرفأ الذاكرة التي تصدح برؤى الفن حاضراً ومستقبلاً، رحل العبيدي، لكن عبق إبداعه مازال يعطر تاريخ المسرح العراقي.
الرسام ممثلا
الميساني الذي ولد عام 1933 وعاش في كنف عائلة منفتحة على الأدب والفن، عشق الفن منذ صباه واعتلى صهوة الحلم ليحلق عالياً، حتى تحقق حلمه بأداء أحد الأدوار المسرحية في مدرسته الثانوية لينال إعجاب أساتذته حينها، اتجه إلى معهد الفنون الجميلة في فرعه المسائي ليكمل مشوار الحلم، ورغم تعدد مواهبه الفنية، إلا أن الراحل حقي الشبلي أقنعه أن يتجه إلى المسرح كونه يشمل جميع الفنون، فقدم دور هاملت الذي أثار إعجاب مجموعة من الزائرين الأميركان لمعاهد الفنون في المنطقة، عرض عليه أن يكمل دراسته في أميركا، إلا أنه فضل المملكة المتحدة البريطانية، حيث شكسبير والأدب الانكليزي، إذ بعد أن حاز على العلامة الكاملة في معهد الفنون ابتعث إلى هناك، ليضيف الى مسيرة إبداعه إبداعاً آخر، حين لفت أنظار سيد المخرجين في لندن (بيتر بروك) ليمنحه عضوية نقابة الممثلين البريطانيين، فتكون جوازاً لدخوله الى التلفزيون البريطاني فيشارك في أهم ثلاثة مسلسلات هي (كرين، تو رنز، ترين ميكر).
العودة إلى الوطن
علا صوت الحنين الى الوطن، فما كان منه إلا الاستجابة لهذا الصوت، عاد الى بغداد، مروراً بالكويت، ليمارس مهنة التدريس في معهد الدراسات العالي للفنون المسرحية الذي أسسه الفنان المصري زكي طليمات، احتج على المفاهيم القديمة التي تدرس، فكان الصدام مع مؤسس المعهد، ليقدم استقالته احتجاجاً على طريقة التدريس، قائلاً في وسائل الإعلام الكويتية: “درست ما درس هو، لكنه لم يدرس ما درسته أنا.” عاد الى بغداد ليؤسس فرقة (مسرح بغداد)، وكان مقرها في عمارة مرجان، وقدم من خلالها عدداً من الأعمال الرصينة التي أرشفتها ذاكرة المسرح العراقي المعاصر. لم تستمر الفرقة طويلاً بسبب انقلاب شباط الأسود وما رافقته من ظروف غير طبيعية، وظلت ذاكرته تحتفظ برعب تلك الأيام التي لا يتذكر فيها العبيدي الا لحظات الملاحقة والمراقبة والتنقل من دار إلى دار. لم يكن العبيدي وحده هدفا للانقلابيين في تلك الأيام، بل كان ضمن قائمة من المبدعين والأكاديميين طاردتهم سلطات الحرس القومي الفاشي وأقصتهم عن المشهد الثقافي والجامعي.. مازال يتذكر باعتزاز حادثة اختباء الوزير والناشط عزيز شريف في بيته بعد أن وظف مهاراته في المكياج لتغيير ملامحه اتقاء لشرور سيطرات الحرس القومي التي كانت تنتشر في بغداد في تلك الأيام المرعبة. قرر المغادرة الى إنكلترا مرة أخرى، ليعود بعد أن فتك به الحنين مرة أخرى الى بغداد عام 1972 وبعد عودته قام بتأسيس فرقة (مسرح الرسالة)، وقدم عروضاً مسرحية عدة مؤلفاً ومخرجاً، كانت أبرزها مسرحية ((نور والساحر)) التي حازت على أغلب جوائز مهرجان مسرح الطفل في مصر، في عام 2003 تسنم منصب مدير عام دائرة السينما والمسرح ليدخل في مرحلة صدام جديدة مع الطارئين وليحافظ على قدسية خشبة المسرح، ثم لينزوي بعدها بعيداً متفرداً بفنه وفي شخصه، وهذا شأن المبدعين دائما الذين ينتزعون الإبداع انتزاعاً ليتركوا بصمة واضحة في تاريخ المنجز الفني.
مسرح الطفولة
أدرك العبيدي أن رسالته الفنية في بلاده لا يمكن أن تكتمل دون إرساء اللبنات الأولى لمسرح الطفل في العراق، الذي شهد -خلال عقود منصرمة- محاولات مدرسية بدائية هنا وهناك. آزره في هذا المنحى مسرحيون رواد تطابقوا معه في الإيمان بقيم الإنسانية والإيمان بمسرح الطفل، كالراحل قاسم محمد وعزي عبد الوهاب وآخرين. قطفت مسرحيته (نور والساحر) الجوائز والأضواء وتفوقت على مسرحيات من دول كانت قد سبقتنا في محاولات مسرح الطفولة، ليعلن بداية حقيقية لمسرح الطفل التي أجهضتها الحكومة البعثية الفاشية، حين وجهت سياساتها الوحشية باتجاه عسكرة الأطفال.. وإقصاء قيم الإنسانية من أرواحهم.
عزلة منزلية
قبع العبيدي في عزلة منزلية يعاني فيها وهن الشيخوخة والصراع مع أمراضها.. والأقسى من هذه المعاناة ما كان يلقاه من إهمال بصفته رائداً من رواد المسرح العراقي.. إذ لم تستذكره أية مؤسسة رسمية أو مدنية لتطرق بابه وتذكره بأن بلاده لا تنسى قناديلها المبدعة المضيئة، رحل بصمت موجع مخلفاً إرثاً فنياً كبيراً.