الإقصاء والتهميش في الوسط الفني العراقي

180

عادل مكي /

قال العالم الفيزيائي آينشتاين ذات مرة “لو لم أكن فيزيائياً لكان من المحتمل أن أصبح موسيقيا.”
غالباً ما افكر بالموسيقى وانظر إلى كل تفاصيل حياتي بدلالة الموسيقى.. اجمل اوقاتي هي تلك التي اقضيها بالعزف على الكمان، لأن الفنون الجميلة تلعب دورا مهما في المجتمع وتجعله اكثر رقيا. ومن هنا كانت للفنون الموسيقية قيمة ابداعية في حياة الإنسان.

فكل ابداع تبدعه اليد البشرية يطلق عليه (فن ) طالما يحقق قيمة جمالية عليا وكبرى له وللمجتمع، ولهذا التفتت وتنبهت الدول المتقدمة ابداعيا بالاحتفاء والاهتمام بكل فنان، إذ توفر له سبل العيش الكريم وكل متطلبات الحياة والعيش الرغيد له حتى لو بلغ من العمر عتيا، إلا مجتمعاتنا فهي بيئة طاردة لمبدعيها، الا ما ندر، فكم من مبدع غيبته سنوات الجوع والحرمان بعد ان أتعبه الزمن وانهكته تفاصيل الحياة.
ويكاد يكون التهميش –ومازال- متأصلا في الأوساط الفنية، ولدينا عشرات -بل مئات- الحالات التي اصابها الحيف والنكران.
شاءت الأقدار ان التقي أحد المطربين الذي كان عضوا في فرقة الإنشاد العراقية العتيدة، ولديه اكثر من اغنية منفردة ويجيد الغناء بشكل محترف، كونه يتملك صوتا ساحرا، التقيته عند محل صغير لبيع وتصليح الهواتف النقالة القديمة في الباب الشرقي لتصليح هاتفه (الصرصور نوكيا) وتبديل بطارية هاتفه المتعب، الذي يشبه حالته الرثة والمحزنة، وهو بالكاد يستطيع ان يدفع ثمن التصليح البالغ أقل من (دراهم معدودات)، وهو الذي كانت تنصت له الآذان اعجابا وشدوا.
وكذلك كان الحال مع المطربة سهى عبد الأمير التي (تفترش) الآن احد شوارع بغداد، بدون سكن او مأوى بعد ان ذهب عقلها ومجدها وفنها مع الريح.
وليس بعيدا عنها يقف المطرب ياسر البصري الذي كان ذلك الشاب الجميل، إذ أنهكه المرض بعد ان اصيب بحادث سيارة، ونسي بلا سؤال، ويحاول لحد هذه اللحظة ان يجد قوت يومه، تارة هنا وتارة هناك، مستذكرا بألم ايام نجوميته بحسرة.
ولا يقف الحال عند هذا الحد، فهناك اساتذة مخضرمون في الغناء يمتلكون اصواتا هادرة قدموا اغاني خالدة وكبيرة، لكنهم تعرضوا للتهميش والنسيان، امثال قاسم اسماعيل ومالك محسن وحسين جبار وسعد عبد الحسين وآخرين .. كذلك الحال مع الفنانين حسين البصري وصباح الخياط وجمعة العربي، الذين قدموا اغاني كبيرة لايمكن تجاوزها، وغناها اكثر من مطرب ومطربة عربية أضافت الى رصيدهم الشيء الكثير.
ولو قمنا بإحصاء الأصوات الغائبة والمنسية، لاتضحت لدينا قائمة طويلة من المبدعين والمهمشين من الشعراء والملحنين والموسيقيين ومهندسي الصوت على حد سواء، فبغداد -في سالف زمانها- كانت محطة للانتشار والنجاح، وكانت قبلة العشاق للإبداع والجمال، حين ضجت لياليها بالأصوات العربية الوافدة، إذ كانت سببا مهما في نجاحهم، مثل الفنانة ام كلثوم وعبد الوهاب وعبدالحليم حافظ وفائزة احمد وانصاف منير وراويه ابراهيم التي غنت (ادير العين ماعندي حبايب) وحفصة حلمي وسميرة توفيق ونرجس شوقي والمطربة نهاوند. بموازاة مطربات عراقيات صدحن بأجمل واعذب الأغاني، فمنهن من تغربت ومنهن من اعتزلت او ماتت دون ان يلتفت اليها أحد، كمائدة نزهت وسيتا هاكوبيان وشوقية العطار وامل خضير وانوار عبد الوهاب، لكن تبقى المطربة المميزة التي اثارت انتباه الكثيرين صاحبة مكانة فارقة في الأغنية العراقية لخصوصية حالتها وخصوصية جمال صوتها، الا وهي المطربة الضريرة والفنانة القديرة صاحبة الصوت العراقي الشجي هناء مهدي، التي تربت وترعرعت في بيت فني وعائلة تهوى الفن الموسيقي امثال زوجي اختيها وهما الفنان الكبير خزعل مهدي والفنان الكبير جميل قشطة، فقد نالت من هؤلاء الرعاية والاهتمام والخبرة في الغناء والموسيقى، إذ كان الفنان خزعل مهدي هو اول من اكتشفها ولحن لها وعرفها على الوسط الفني والجمهور العراقي حين كانت بدايتها في كورال الإذاعة الذي عينت فيه، ومنها كانت انطلاقتها التي لفتت إليها الانتباه، وذلك عندما غنت اغنية رياضية كانت الاشهر إلى وقت قريب الا وهي اغنية ( العب يحبيبي اتمرن.. العب عالطوبة اتفنن)، فقد ادتها بشكل لا نظير له وذلك لحلاوة صوتها الخالي من النشاز وكأنها تحفة فنية رائعة.. وعندما سمعها الملحن العربي بليغ حمدي اصيب بالذهول وقال “هذا الصوت كنز مدفون”
مع ذلك لم تسلم هذه الفنانة القديرة من التهميش والإقصاء، وهي بدورها فضلت الابتعاد والانزواء، لنحرم نحن من ذلك الصوت الرائع ومن تطريبه الكبير.
ولو حاولنا ان نجرد الأسماء المهمشة سنحتاج بالتأكيد الى اكثر من مقال وموضوع، لان القضية تشترك فيها غالبية المؤسسات الفنية الحكومية وغير الحكومية التي تهتم بهذا الشأن. وعلى الرغم من اني غير متفائل بحدوث معجزة تنصف هؤلاء او غيرهم، لكنها تبقى اماني أن يجري انصاف تلك الفئات الإبداعية التي لن تتكرر، التي افنت حياتها كي تقدم فنا يرتقي بالذائقة السمعية ويسجل في خارطة الزمن.. انه ابداع عراقي بلا منازع.