العراق يودّع فقيه الخط العربي يوسف ذنون
#خليك_بالبيت
يوسف الحاج راضي /
“أحد العوامل الرئيسة التي قادتني لتعلّم الخط هي كتابتي الرديئة، والسبب في تأخّر دراستي للخط هو نشأتي في عائلة فقيرة، اضطرّني ظرفها الاقتصادي للعمل أثناء متابعة الدراسة منذ الصغر”.
بهذه الكلمات البسيطة في لغتها والعميقة بدلالاتها التي جعلت من الراحل يوسف ذنون يتربّع على عرش الخط العربي بعد رحيل الخطاط الكبير هاشم البغدادي، وينال عن استحقاق وبإجماع عربي وعالمي لقب فقيه الخط العربي .
إجازة الآمدي
لا عجب أن تجد الأوساط الإعلامية عراقياً وعربياً وعالمياً أن تنعى الخطاط العراقي يوسف ذنون بعد رحلة طويلة ومثمرة في عالم الخط، جعلت من ذلك الرجل مرجعاً لعاشقي الخط وتلاميذه بعد رحيل سلاطين الخط من أمثال حامد الآمدي وهاشم البغدادي، ويكفينا فخراً وليس يكفيه فقط أنَّه حصل على الشهادة والإجازة الكبرى في الخط العربي من الخطاط التركي الشهير الراحل حامد الآمدي في العام 1966وهو بسن الرابعة والثلاثين من العمر ولم يكن من السهولة الحصول على إجازة في الخط العربي من قبل الآمدي الا بعد تمكن الحاصل عليها من فهم جميع أنواع الخط العربي وإدراك وفهم مصادرها التاريخية والتَّبحُّر في عالم ذلك الفن الدقيق، ثم منحه جائزة التفوق في العام 1969، وكلتا الجائزتين مذيلة بتوقيع الآمدي المتوفى في العام 1982.
حكايتي مع الراحل
في منتصف ثمانينيات القرن الماضي حصل لي الشرف أن أشاهد تلك الشخصية من خلال دورة للخط العربي أقامتها مديرية تربية نينوى بإشراف الخطاط يوسف ذنون الذي كان يقيم ورشاً تعليمية مجانية من خلال تلك المديرية، إذ كنّا مجموعة من الجنود الذين كلّفنا حينها آمر الوحدة بضرورة تعلّم الخط لكوننا نعمل في قلم الوحدة، ولصرامته في التدريس رغم الهدوء الذي عرفت به شخصيته، ولمشاكساتي الصبيانية وعدم المبالاة كنت أول الهاربين من تلك الدورة التي ندمت بعدها أشدّ الندم لكون جميع من اشتركوا بتلك الدورة من الجنود وغيرهم أصبحوا يتباهون بخطهم الجميل أمامي وحتى أمام آمر الوحدة الذي عاقبني على فعلتي تلك بعقوبة قطع الراتب لثلاثة أيام ولم تهمني تلك العقوبة لاحقا، بقدر عقوبتي لنفسي التي تمثّلت بخسارتي تلك الدورة وخيبتي بعدم الحصول على شهادة تخرّج موقّعة من قبل فقيه الخط العربي الراحل يوسف ذنون.
المركز الثقافي للخط
رحل الكبير يوسف ذنون يوم الجمعة الثالث من تموز الجاري عن عمر ناهز (88) عاما في مدينته الموصل إثر جلطة قلبية، التي ولد فيها في عام 1932، والراحل كرّس حياته بأكملها لخدمة هذا التراث الكبير والحفاظ على فن الخط وتطويره ليكون آخر فرسان هذا الفن الذي حمل رسالته حتى آخر لحظات حياته، إذ إنَّه وبعد تحرير الموصل من عصابة “داعش” ومع تقدّمه بالعمر قام في العام 2017 بافتتاح المركز الثقافي الخاص بالخط العربي في مدينته وقام بتشييده على نفقته الخاصة، وكانت له محاضرات أسبوعية في هذا المركز يلقيها على النخب المعنية بالخط العربي؛ يزودهم من خلالها بتجربته الغنية في هذا الفن العربي الأصيل، وكان المركز يحتوي على مكتبة تضم عيون المراجع والكتب والرسومات والبحوث والدراسات الخاصة بالخط العربي.
مناقب ومؤلفات
الزائر لمحافظة نينوى ولجامعة الموصل لا بدّ أن يرى على بوابة تلك الجامعة عبارة “وقل ربي زدني علماً” التي خطّها الراحل بيده على تلك البوابة، وتشير المصادر إلى أنّ خطوطه الجميلة وبأنواعها قد زيّنتْ ما يقارب (250) مسجداً وجامعاً في العراق، ناهيك عن لوحاته وخطوطه الشهيرة التي خُطّتْ في الكثير من مساجد الدول العربية لا سيما الخليجية منها.
وأصدر يوسف ذنون العديد من المؤلفات فى مجال الخط العربى نذكر منها : “دروس التربية الفنّية (1965م)، خلاصة قواعد خطّ الرقعة (1971م)، الخط الكوفي (1972م)، مبادئ الزخرفة العربية (التوريق) (1972م)، كرّاسة تحسين الكتابة الاعتيادية (1978م)، قواعد خط الرقعة (1978م)، قواعد الخطّ الديواني (1978م)، الكتابة وفنّ الخطّ العربي.. النشأة والتطوّر.
من نصائحه للخطاطين التي يؤكدها في جميع محاضراته أن لا يكتب الخطاط اسمه تحت مخطوطته ما لم يكن حاصلاً على إجازة في الخط من قبل مرجعية معروفة لهذا الفن، والمتعارف عليه أن تكون الإجازة موقّعة في خطي الثلث والنسخ، لكون هذين الخطين من أصعب الخطوط، ولكن الملاحظ هذه الأيام أنّ الكثير من الخطاطين يكتبون أسماءهم على مخطوطاتهم وهم لا يملكون الإجازة في ذلك، من دون التّقيّد بوصية فقيه الخط العربي.
مناشدة لوزارة الثقافة
نعت ذنون العديد من الأوساط المحلية والعربية والدولية وكذلك وزارة الثقافة العراقية التي كانت سبّاقة في ذلك، لكونه أحد الرموز التي تتباهى ونتباهى بها، لكن نناشد وزارة متمثّلة بوزيرها الجديد بوصفه من البيت الثقافي أن يبادر لعمل نصب تذكاري لهذا الرمز الثقافي سواء في مدينته الموصل أو في العاصمة بغداد، وهي من أبسط الأشياء التي يمكن أن تقدمها الوزارة لأحد عمالقة الخط العربي، وكذلك نتمنّى من أكاديمية الفنون الجميلة أن تطلق اسم الراحل على إحدى قاعاتها، تخليداً لتأريخ رجل أفنى عقوداً من عمره بالحفاظ على تعليم هذا الفن الزاخر بالجمال وإدامته.
النسخة الألكترونية من العدد 363
“أون لآين -6-”