الفارابي بين هدوء الفلسفة وصخب المدينة

372

استطلاع : زياد جسام – تصوير : صباح الامارة /

تزداد أهمية النصب والتماثيل في الساحات والشوارع كلما مر عليها الزمن، إذ تعد شاهداً على التاريخ بما يحمل من متغيرات، كما تتحول هذه الأعمال -بمرور الزمن- إلى شواهد تاريخية مرتبطة بالمكان الذي وضعت فيه ولأجله، أما بالنسبة لتماثيل الشخصيات، من شعراء وفنانين وعلماء، فهي تمثل هوية وطنية وإنسانية تتفاخر بها الشعوب..
في الآونة الأخيرة، التفتت أمانة العاصمة الى إعادة الروح لبعض ساحات بغداد المهمة، من خلال ترميمها ونقل بعض النصب من مكان الى آخر، وهذا ما أثار استغراب الفنانين، فقد نقل تمثال محمد غني حكمت (فتاة بغداد) من قاعدته ومكانه في ساحة الأندلس الى ساحة المتحف في العلاوي، حيث وضع على قاعدة أخرى، ورفع النصب السابق الى مكان آخر، وأخيراً تم نقل تمثال الفارابي من موقعه في متنزه الزوراء الى ساحة الوثبة. وبالرغم من أنها جهود كبيرة لتزيين الساحات، إلا أنها أثارت حفيظة بعض الفنانين والنقاد، وكانت لهم آراء وملاحظات نقلتها “مجلة الشبكة” في هذا الاستطلاع:

دراسة المكان
تحدث الفنان محمد عزيزية عن خطوة أمانة بغداد الأخيرة في نقل تمثال الفارابي من متنزه الزوراء الى ساحة الوثبة ووضعه على قاعدة جديدة.. قائلاً “بغض النظر عن موضوع نقل تمثال الفارابي، إلا أن أي عمل فني له علاقة بالمكان، والنصب والتماثيل عندما توضع في مكانها تخضع لدراسة المكان والفضاء وعلاقة التمثال بالمحيط .” وعن تغيير مكان التماثيل قال “يجب أن تحال إلى لجان مختصة في هذا الموضوع من خبراء فن ومختصين من جهات فنية كنقابة الفنانين العراقيين او كلية الفنون الجميلة.”
أما الفنان جابر حجاب فقال “إن وضع تمثال الفارابي الذي تم إنجازه عام 1975، للفنان إسماعيل فتاح الترك، في ساحة الوثبة المزدحمة وضجيجها المستمر نهاراً والمغلقة بعد الظهر، أمر غير منطقي إطلاقاً، ولا أعرف من هو المستشار وصاحب الرأي في ذلك؟” وأضاف أن “هناك قواعد لوضع التماثيل والنصب، تتناسب جمالياً ومضموناً مع الأماكن التي توضع فيها، فليس هناك من تمثال لكل الساحات، ولا هي الساحات لكل التماثيل أيضاً.”

ساحة ضيقة
وتساءل جابر عن علاقة الفارابي، الفيلسوف والموسيقي، بساحة الوثبة التجارية وقربه من البنايات المتروكة والمتهالكة المحيطة به؟ وقال “إن الفارابي، مع كتابه، وعوده المركون إلى جانبه يحتاج إلى ساحة ذات فضاء أوسع من ساحة الوثبة الضيقة والمحاطة في بعض جوانبها ببنايات تخنق العمل وتحجب الرؤية المناسبة له.”
وعن جمالية هذا العمل أكد “أنه يعتبره من أجمل النصب التشخيصية في بغداد مع تمثال مواطنه أبي نواس، ومن أجمل ما صنعته يدا الفنان الترك، ولو كان بيدي الأمر لوضعته في حدائق أبي نواس، وأنقل معه تمثال عنتر بن شداد -حاليا في حديقة الزوراء- للفنان ميران السعدي، ولجعلت من هذا المكان حديقةً للتماثيل ومتحفاً مفتوحاً للعامة، وساحةً للاحتفالات الشعبية.”

نصب جماهيري
من جهة أخرى، تحدث الناقد خالد خضير الصالحي، وكان رأيه مغايراً، إذ قال “إن وضع تمثال الفارابي في ساحة الوثبة أفضل من الزوراء، لأن الزوراء مكان غير مثالي لنصب الفارابي، فقد تكون أية ساحة أفضل من مكانه السابق.”
وأضاف “أن النصب موجهة للتلقي الجماهيري، ففي أوروبا لا نجد تماثيل مرتفعة كتمثال بغداد الشاهق في ساحة الأندلس، وغالبا ما تكون النصب بـ (مستوى الجماهير)، وأعني بالمستوى هنا ارتفاع النصب، من أجل إتاحة درجة كبيرة من التفاعل الحي بين النصب وبين مرتادي الساحة، والأمر ينطبق عل اختيار المكان من ناحية إحاطته بالبنايات وتوفير مجال رؤية ومجال تلامس إن امكن مع المتلقين. استناداً الى ما ذكرنا فنحن نحبذ نقل التمثال من الزوراء الى ساحة (جماهيرية) او واجهة لمؤسسة لها علاقة بموضوع النصب، أي الفلسفة والثقافة هنا.”

مكان صاخب
وللفنان حسن إبراهيم حديث أيضاً، إذ يقول ” بالرغم من أنني لم أشاهد التمثال في مكانه الحالي بشكل مباشر، إلا أن هذا المكان التجاري البحت والصاخب عادةً لا يتناسب وشخصية العالم الفارابي، الطبيب والموسيقي والكاريزما التاريخية، والعلاقة المكانية لا تكاد ترتبط معها، كما ارتبطت الذاكرة والعلاقة المكانية مع تماثيل الرصافي وأبي نواس وأبي جعفر المنصور، على سبيل المثال لا الحصر، أتمنى المراجعة ودراسة مكان أفضل ليأخذ استحقاقه الذي يليق به.”
أمر لا يصدق..!
فيما يرى الناقد والفنان التشكيلي خضير الزيدي أن بغداد لا توجد فيها ساحات مهمة تليق باسمها، إذ قال “نعم، توجد نصب وأعمال فنية علينا جميعاً أن نحترمها لمكانتها الجمالية والتعبيرية، لكن وضع الساحات، من حيث المساحة والفضاء، يبدو غير مقنع، شخصياً لا أتفق مع وضع نصب مهم كنصب الفارابي في ساحة مثل الوثبة، إنه أمر لا يصدق، ساحة لا تملك فضاء ولا مساحة ولا المكان من حيث الشكل يحقق لنا أن نتأمل في عمل فني مثل هذا..”

تأثير بصري
وأضاف الزيدي : “في جوانب مثل هذه، تتخذ من الفن مساحة للتأمل، نحتاج الى رؤية المختصين في العالم الغربي، يكون ذلك وفق دراسة منطقية تحسب للمكان ولارتفاع النصب وأبعاده، ومدى الحفاظ عليه من عوامل بيئية مؤثرة.. ما حدث مع هذا النصب (الفارابي) كان أمراً غير مدروس وغير ناجح، لكن علينا أن نتفق في النهاية: هل أن بغداد مدينة جميلة؟ فبغداد قد خرجت من فكرة الجمال، فكيف بساحاتها وما يليق بالأعمال الفنية من تأثير بصري وجمالي.. أنا شخصياً لا أتفق مع فكرة هذا المكان، لكن الذي لا نتمناه أصبح أمراً واقعاً، فماذا نفعل غير أن نحتج بمثل هذا القول وهذه الكتابة.”

علاقة الأمكنة
أما النحات خالد مبارك، صاحب نصب السلام الموجود في ساحة حافظ القاضي ببغداد، فقد تحدث عن الأمكنة وعلاقتها بالمنحوتات، وقال “إن عملية الإعمار وتغيير الأمكنة من وضعها البائس، وهي تحمل تراكمات الإهمال عبر عقود عدة، وآخرها الفوضى التي جلبها المحتل ليجعل من مدينة عظيمة بإرثها الكبير وجمالية أمكنتها مدينة بائسة تسودها الفوضى الخلاقة.” وعن موضوع ساحة الوثبة قال “اختيار ساحة الوثبة وما تمثله من تاريخ مرتبط بمدينة بغداد العظيمة شيء مهم وما تم من تطوير لهذه الساحة شيء يبعث الأمل.”