الفنان التشكيلي عمار داود: أنشد عالماً بديلاً أجد فيه معنى لحياتي..

162

حوار: محسن العكيلي /

في وسط فني وثقافي عاش عمار داود طفولته، غادر العراق في سن مبكرة. أدرك مبكراً أن الفن البصري يموت حين يحوله الفنان إلى مناسبة تجمع رموزاً وإشارات لإيصال فكرة ما. ومنذ البداية، كان يتعامل مع الفن البصري ليس باعتباره وسيطاً لغوياً قابلا للقراءة، إذ أن ما يدفعه الى صناعة العمل الفني هو أنه ينشد عالماً بديلا يجد فيه معنى لحياته.
رحلة مع التشكيلي عمار داود في عالم اللون أبحرنا فيها من خلال مجلة “الشبكة العراقية”.
*ما الملامح الأولى التي أيقظت فيك روح الفن التشكيلي؟
-ربما كان لوالدي النصيب الأكبر في اهتمامي بفني الرسم والنحت، فقد كان يرسم وينحت، إذ أنه درس في معهد الفنون الجميلة ببغداد، وكنت قد اطلعت على بعض من كتبه الفنية في سن القراءة، إضافة الى أن أعمامي وجدّي كانوا مهتمين بالأدب والفن السينمائي، منهم فاروق داود، وهو مخرج سينمائي وممثل، ورياض داود الذي درس الأدب الإنكليزي في بريطانيا وعمل في مجال الترجمة واهتم بالفلسفة، إضافة الى جدّي الذي كان قارئاً نهماً للأدب، هذه البيئة كانت من أسباب اختياري وممارستي للفن واهتمامي بالثقافة والقراءة.

*هل صحيح أن على الفنان أن يبدأ بالمدرسة الواقعية حتى تكون لديه مرجعية لأسس اللون وتكوين لوحته؟
-من وجهة نظري هذا ليس صحيحاً، كما أنه ليس شرطاً لا مفر منه، فتاريخ الفن الحديث زاخر بفنانين جيدين لم نجد لهم بدايات واضحة ومتميزة في مجال الفن الأكاديمي (المدرسي) أو في مجال مطابقة الطبيعة (الفن الواقعي).
شخصياً، لست مع ضرورة وجود خلفية أكاديمية للفنان، إلا أنني لم أعدم فرصة أن أتعلم الفن الأكاديمي وممارسته، ومازلت أفعل ذلك من وقت الى آخر، وقد درسته في الأكاديمية ببولندا ومعهد الفنون في العراق.
*غادرت العراق مبكراً إلى بيئة أخرى، ما تأثير البيئة على اللوحة؟
-غادرت العراق وأنا شاب صغير السن، وبالتأكيد كان للبيئة الثقافية في كل من بولندا والسويد تأثير على شخصيتي الثقافية والفنية، اضافة الى البيئة الطبيعية واختلافها عن بيئة العراق، وبعد كل تلك السنوات التي قضيتها في البلدين فإني أجد أن في لوحاتي محاولات مستمرة للتوفيق أو مزج هذه المؤثرات مع ما ورثته من ثقافة عراقية لتكوين نوع من فن توفيقي يجمع أكثر من بيئة وثقافة، لا شك في أن التأثر بهذه البيئات واضح بالنسبة للمتلقي او الناقد.
*المشاهد للوحاتك التشكيلية يلمس فيها بصمة وبعداً إنسانياً من خلال العديد من الرموز والإشارات.. هل هي مستلهمة من الذاكرة الإنسانية المشتركة؟
-على الرغم من وجود بعد إنساني، أو ما ننعته بالبصمة، وهو في الواقع توجه موجود في أعمالي بصيغة محوّرة غالباً أو إيمائية، إلا أنني رغم ذلك لست ميالاً الى القصدية المرتبطة بتوصيل خطاب محدد من خلال الرموز والإشارات، فلقد أدركت مبكراً أن الفن البصري يموت حين يحوله الفنان إلى مناسبة تجمع رموزاً وإشارات لتوصيل فكرة ما، ومنذ البداية، كنت أتعامل مع الفن البصري ليس باعتباره وسيطاً لغوياً قابلاً للقراءة، بل باعتباره وسيطاً بصرياً وشكلانياً بحتاً، وعلى هذا الأساس تبنيت فكرة أن أية مفردة او إشارة او علامة في الفنون البصرية هي ليست أكثر من تجليات للمحتوى الشكلاني.
*هل اللوحة ترسم نفسها، أم هو الكامن في أعماق الفنان، أم موهبته وقدرته على الرسم البارع؟ بمعنى آخر هل أن اللوحة هي من تفسر نفسها؟
-لا توجد لوحة ترسم نفسها، اللوحة ساكنة وخرساء إلى الأبد إن لم يأتها من يحركها او يُفعِّلها، لكنني استطيع القول إن الفنان هو من يهيئ اللوحة / المنصة التي سوف تتفاعل فوقها العناصر التي تظهر أحياناً عشوائياً، وأحياناً أخرى قصدياً، الفنان يقترح او يصنع منصة لحدوث العمل الإبداعي، وليس دائماً عنده إمكانية التحكم بكل شيء، لأن ما موجود على المنصة يشتغل في حالات كثيرة لوحده بسبب وجود الصدفة. العمل الفني البصري وعملية كتابة النص الشعري كلاهما يبدأ من كلمة أو شكل يضعهما الصانع دون أن يتنبأ مسبقاً بالنتيجة النهائية. إن تحكمك الصارم باللوحة يقتلها، ويعدم طزاجتها، لهذا، ضع أفكارك المسبقة عن ما ستؤول إليه اللوحة على الرف، اتركها وابدأ الرسم.
الرسم يجب أن يكون طبيعياً مثل التنفس.
*من وجهة نظر الجمال والفلسفة. ما المعايير التي تحكم على جمال وقبح اللوحة؟
-لا توجد معايير تتسم بالإطلاق، الجمال -كما هو معروف- نسبي ومرتهن بقناعات الشخص الذاتية، مفاهيم (الاستطيقا) متغيرة، لقد حاول الإنسان وضع النسبة الذهبية كقاعدة للجمال، لكنها لم تصمد إزاء المتغيرات الكثيرة التي طرأت على مفهوم الجميل، الذائقة متغيرة، ويحاول الفنانون تطبيع ذائقة الناس مع ما يأتون به من جماليات جديدة.
*هل تجد أن النقد الفني التشكيلي استطاع الدخول إلى عمق التجربة الفنية العراقية أم ما تزال ثمة عوائق؟
-من الصعب الحكم في هذا الموضوع، إلا أنني أجد أن عدد النقاد الذين تمكنوا من إجراء بحوث نقدية رصينة هو عدد ضئيل، وبالرغم من ذلك فهو عدد مقبول لو تمكنت المؤسسات أو المهتمون من نشر هذه البحوث بشكل جيد.
*الفنان لا ينفذ عمله الفني دون أن يتأثر ويتفاعل مع حدث أو موضوع (ما)، فكرياً ونفسيا، ما الذي يحرك الكامن في عمار داود؟
-ما يدفعني غالباً لإنتاج الأعمال الفنية هو تبرمي من اللاجدوى، او اللامعنى اللذين يحيقان بي وبنا في هذا العالم. الذي يدفعني الى صناعة العمل الفني هو نشداني لعالم بديل أجد فيه معنى لحياتي، ولكن من غير مواعظ ولا إشارات لما يجب أو لا يجب فعله، ولا أريد لأعمالي أن تعكس موقفا تعبيرياً (مباشراً) من الأحداث المؤلمة التي تطوقنا في هذا العالم بشكل يومي تقريباً، لأن موقفاً كهذا ممكن له أن يتأسس بجدارة أكثر من خلال النص اللغوي وتوجيه النقد مباشرة من خلال المظاهرات ووسائل التواصل الاجتماعي. الفن البصري يعنى بالإيماء إلى الحال البشرية بصورتها الشاملة، إلى الداخل الإنساني الذي نتجت منه كل تلك التجارب المريرة في تاريخ البشرية الطويل.
*قداسة وتعفف الفنان في بيع أعماله الفنية.. هل تعتبرهما وهماً نقدياً؟
-نعم، هما وهمان يعتقد بهما الكثيرون، إذ لا قداسة للفنان، إنه إنسان عادي، والفنان الجيد يتمتع بوجدان مرهف وعاطفة عميقة إزاء الإنسان وبقية المخلوقات.
*إذن، هل تعتبر المعارض الفنية بوابة للاطلاع على أعمال الفنان أم أنها مجرد رقم يضاف إلى سيرته؟
-المعارض هي مناسبات جيدة لمتابعة تطور الفنان والتحاور معه وتلقي منتجه بالفحص والتذوق، على ألا تكون فقط سبباً للقاءات اجتماعية كما نرى ونتابع مراراً على مواقع التواصل الاجتماعي.