الفنان والأكاديمي أحمد شرجي: أعيش للمسرح

533

حوار:علي السومري – تصوير: صباح الإمارة /

كائن شغوف بالمسرح والبحث في عوالمه، وممثل يختار أدواره بعناية فائقة، وأكاديمي يحاول تقديم كل ما تعلمه خلال سنواته الطوال على خشبة المسرح لطلبته في الجامعة من خلال مشروعه (الممثل الباحث).
إنه الدكتور أحمد شرجي، المولود في بغداد العام 1968، درس التمثيل في معهد الفنون الجميلة وكلية الفنون الجميلة في بغداد، وغادر العراق في تسعينيات القرن الماضي ليستقر في هولندا، التي قدم فيها العديد من الأعمال المسرحية والسينمائية ممثلاً ومخرجاً، نال بعدها شهادة الماجستير في الدراسات المسرحية عن أطروحته (العلامة في المسرح، الممثل أنموذجاً)، ثم الدكتوراه في المسرح وفنون العرض عن أطروحته (اشتغال العلامة ثقافياً في العرض المسرحي – دراسة مقارنة)، من جامعة ابن طفيل في المملكة المغربية.
ولتسليط الضوء على مشروع الدكتور أحمد شرجي الإبداعي، كان لنا معه هذا الحوار:
أعيش للمسرح
*بالرغم من انشغالك بالمسرح مخرجاً وممثلاً متميزاً، المسرح الذي تعتبر نفسك ابناً له، لكنك اتجهت بقوة للتنظير فيه، ما الذي أغراك لدخول هذا العالم؟
-مثلما تفضلت، أنا ابن المسرح وانتمي إليه بقوة، ولهذا أعيش مع كل أجناسه المختلفة، الكتابة جزء مهم لتطوير العملية الاشتغالية من خلال البحث والقراءات المجاورة، لم أطرح نفسي يوماً ناقداً أو كاتباً، رغم تعدد الإصدارات، لكني أطرح نفسي فناناً مسرحياً، وهذه الصفة تحتم علي الولوج إلى مناطق شائكة والحفر فيها بعقلية بحثية تطبيقية، عقلية الممثل والمخرج، وهذه ميزة أن تكون في داخل العرض المسرحي ممثلاً أو مخرجاً، وعندي أربع إصدارات في سيميولوجيا المسرح، وهي مشروع متكامل لدراسة تحولات العلامة داخل العرض المسرحي، بدءاً بالممثل وانتهاءً بالانتماء الثقافي للعلامة داخل العرض، وقد أكون متفرداً بذلك لأنه مشروع، والسيميولوجيا (علم العلامات)، منهج متطور، لذلك أردته كمشروع مختلف عما كتبه الآخرون، وسعادة كبيرة أن ألفت انتباه العرب إلى هذا المشروع المختلف على مستوى الكتابة وكتب عنه الكثير، ولعل ما قاله الناقد المهم، وصاحب مشروع الهرمنيوطيقا (علم التأويل)، الدكتور أسامة أبو طالب: إن “أحمد شرجي مفكر مسرحي” يشكل بالنسبة لي حافزاً واعترافاً بالمشروع، كذلك مقالة الناقد المغربي د. خالد أمين (أحمد شرجي.. حياة في المسرح)، وغيرها، وجميعها ذهبت لكل ما ذكرته هنا، بأني أعيش في المسرح كتابة وتمثيلاً وإخراجاً، لهذا أعمل وأنا أضع مقولة ابن عربي أمامي: “كل معرفة لا تتنوع لا يعول عليها”، وأنا أقول: كل كتابة لا تتنوع لا يعول عليها.
* من يعرفك، يدرك اهتمامك بعلم العلامات (السيميائية)، الذي أصدرت فيه أربعة كتب، لماذا اخترت هذا العلم بالتحديد؟
-اختياري للسيميولوجيا، أو علم العلامات، اختيار قصدي لي كأحمد شرجي، لأني شعرت بالجهل التام إزاء ما أطلق عليه رواد مدرسة براغ في الثلاثينيات والأربعينيات بـ(سيميولوجيا المسرح)، وعندما بدأت بدراسة الماجستير في المغرب، أردت البحث في ذلك، وقد كان هذا تحدياً كبيراً أخوضه في أرض السيميولوجيا العربية، كما أني أؤمن تماماً بأن الدراسات العليا مشروع شخصي، ولابد من الاستفادة من هذا الجانب لتطوير الذات والمغامرة البحثية، وأولى الخطوات كانت سيميولوجيا الممثل مع أستاذي د. سعيد الناجي، عندها أدركنا أننا دخلنا منطقة مليئة بالمطبات، أعني كيفية الكتابة عن الممثل بوصفه علامة وحاملاً للعلامات في العرض المسرحي. لا أقول بأني جئت بالجديد، لكني لم أرتكن إلى الطروحات الغربية، بل شاكستها بعقلية الممثل والمخرج، بعدها جاء مشروع الدكتوراه (اشتغال العلامة ثقافياً في العرض المسرحي: دراسة مقارنة)، وأيضاً مع أستاذي د. سعيد الناجي لإكمال المشروع، والاستفادة من اشتغالي العملي في ثقافتين مختلفتين: العراقية والهولندية، ممثلاً ومخرجاً، ذهبت فيه إلى عمق العملية الاشتغالية، هل يمكن أن يؤثر لون بشرة الممثل على أدائه عند انتقال العرض المسرحي إلى ثقافة أخرى؟ وهل تعمل العلامة بمعزل عن مرجعياتها الثقافية والاجتماعية؟ العرض المسرحي الحديث الآن يؤثث ثقافياً واجتماعياً وبيئياً، ولهذا جاءت الطروحات الأنثروبولوجية في المسرح، وكممثل، لمست ذلك عندما قدمت في المغرب مسرحية (فاقد الصلاحية)، وكانت باللغة الهولندية، وأثناء عرضها تفاعل الجمهور مع جملة (استغفر الله) بالرغم من عدم فهمه للغة العرض الهولندية، إذاً، العلامة اللفظية شديدة الارتباط بمرجعيتها الثقافية، كذلك العلامات البصرية، وهذا جوهر اشتغال الممثل الذي بداخلي، ومن هنا بدأ مشروع السيميولوجيا والذوبان فيه.
الدرس الأكاديمي
* ما الذي منحته الدراسة الأكاديمية لك، وما الذي منحته من خلالها لطلبتك؟
-كل موهبة بلا دراسة ومعرفة لا يعول عليها أيضاً، الموهبة وحدها غير كافية، ومنحتني الدراسة – وإن كانت بحثية – مساحة واسعة لإعادة التفكير بالمشروع المسرحي برمته، فقد ذهبت من الخشبة باتجاه الدرس الأكاديمي، وأخذت أتعاطى مع الشخصية والنص وجوانيات النص، بعقلية (الأركيولوجي)، عالم الآثار، وكيفية الاقتصاد في الأداء وتوزيع الطاقة على زمن العرض المسرحي، الدرس الأكاديمي فجر مكنونات الممثل والبحث والتنظير له بوصفه طريقة جديدة لإعداد الممثل اقترحتها على الممثلين، وبدأت الذهاب باتجاهات ومناطق بعيدة عن المسرح وتوظيفها في اشتغالات الممثل مثل مصطلح التناص، وهو مصطلح أدبي ولغوي في المقام الأول وكذلك (الدراماتورج)، كما كتبت عن كيفية اشتغال الممثل بوصفه (دراماتورج) داخل العرض المسرحي، والجانب الأكثر أهمية هو البحث في الأداء الثقافي وفق مرجعية الشخصية، كل هذا سببه الدرس الأكاديمي، الذي أجده بوابة للمعرفة والاكتشاف، وهذا يحضر بقوة في محاضراتي مع الطلبة، رغم أنهم ليسوا طلاب مسرح متخصص، لكن علّنا نصنع منهم متذوقين للفن والمسرح، وجرى توظيف كل ذلك بعملين مسرحيين هما (فاصل ونواصل) و(الفيل يا ملك الزمان)، عملنا فيهما على انعدام الموهبة وكيفية استثمار الانتماء للبروفة عبر التدريب المتواصل، وطبقت حرفياً ما طرحته بطريقة الممثل الباحث في البروفة، وكيفية خلق كارتات اجتماعية عبر المشاهدات اليومية لهم، نبتعد عن التمثيل، ونقترب من الحياة لصناعة الدهشة، وكانت تجارب رائعة يتذكرها أبطالها دائماً بالرغم من تخرجهم منذ سنوات من الكلية، في رأيي أن الهدف من الدرس الأكاديمي هو تحفيز المخيلة والمعرفة من أجل الاكتشاف.
المواقف
*أنت من المثقفين والفنانين الذين التزموا بقضايا الوطن منذ عقود، وما موقفك من الديكتاتورية، أو حتى مشاركتك الدائمة في التظاهرات، إلا خير دليل، سؤالي، كيف تقيم موقف المثقف وتفاعله مع ما حدث ويحدث على الساحة العراقية؟
-قُلت في أكثر من مناسبة، وفي تصاريح مختلفة، ما أهمية أن تكون فناناً كبيراً ومثقفاً مهماً، وأنت بلا موقف، وهنا استشهد بمقولة لألبير كامو: “ليس النضال الذي يدفعنا أن نكون فنانين، بل الفن هو الذي يفرض علينا أن نكون مناضلين”، أنا فنان حر لا انتمي إلا لنفسي ومبادئي والقيم التي أؤمن بها، حتى لو كلفني ذلك حياتي، الموقف عندي ثابت لا يتجزأ، بمعنى أنا (أحمد) بوجه واحد وليس (أحمدات) بوجوه متعددة، تتغير وفق المصالح الشخصية، وهذا كلفني كثيراً على المستويين الفني والشخصي، لهذا أشعر بخجل كبير من دور المثقف الآن، بالتأكيد ليس الجميع، لكن الكثير منهم، وسبق أن كتبت مقالة مطولة عن المثقف التابع والمثقف السلطوي، الكارثة أنهم كانوا –سابقاً- يبررون مواقفهم بخوفهم من المقاصل، لكن الآن ليس هناك مبرر لمواقفهم سوى الانتهازية والتابعية التي أدمن عليها الكثير منهم، لكني مؤمن بأن التاريخ لا يرحم أبداً، والمواقف الكبيرة هي شخصية في المقام الأول من أجل المجتمع والشعب، الفنان والمثقف هما أداتان للتنوير، لكن ما يؤسف له أن الكثير منهم أصبحوا الآن أدوات خراب وانتهازية ولعبوا على حبال المتسلطين، للأسف لم يستفيدوا من تجارب المثقف المؤدلج، إن كان يسارياً أو يمينياً، كل الكتابات والأعمال الفنية والثقافية ستذهب إلى أقرب سلة مهملات عندما يذهب رأس السلطة، وسيتبرأ منها أصحابها تماماً مثلما حدث بعد سقوط الديكتاتورية والبعث.
المنتج الثقافي
*هل يمكننا الاعتماد على جدار الثقافة والفن باعتباره جدار الصد الأخير ضد الأفكار المتطرفة والظلامية التي ابتلينا بها في العراق؟
-من المفترض أن تنهض الثقافة والفن بالمجتمع، ليس من خلال الشعارات، بل عبر النتاجات الفنية وتوفير البنى التحتية داخل المجتمع، أن يحضر المنتوج الفني والثقافي في مناطق بعيدة جداً، حتى تستفز العقل الفردي والجماعي، عندما تكون الثقافة مستقلة والفن حراً، وعندما يكون المثقف والفنان مستقلين غير تابعين للسلطة والتطرف، حتماً سيكون ما ذكرت، جدار صد أزلي ضد قيم التطرف والتخلف الاجتماعي.
*ما جديد الباحث والفنان والأكاديمي د. أحمد شرجي؟
-على مستوى البحث صدر لي مؤخراً الكتاب الرابع (متاهة العلامات في العرض المسرحي: دراسة بيثقافية) ضمن مشروعي سيميولوجيا المسرح، كما كتبت دراسة نقدية بتكليف من المجلس الأعلى للثقافة عن نص (اليد الخفية) ضمن إصدارات المسرح العالمي، وهذه خطوة أسعدتني جدا، لأن فيها اعتراف بالمشروع التنظيري وتميزه، لما تمثله هذه السلسلة من أهمية كبيرة في الوطن العربي. أما على مستوى المسرح، فقد قدمت –كممثل- مؤخراً مسرحية (حرب العشر دقائق). وعلى مستوى الدراما التلفزيونية انتظر بدء تصوير مسلسل (كيخوان) إخراج حسن علي، وأؤدي فيه شخصية مهمة، وهو عمل درامي ضخم يغطي حقبة مهمة من تاريخ العراق.