اللوحات الواقعية بين الإبداع والتجارة

549

استطلاع: زياد جسام /

لو راجعنا تاريخ الفن لوجدنا أن الرسم مر بتحولات عدة، إلا أن كل التحولات جعلته أميناً لمبدأ المحاكاة، إذ كان الرسامون يسعون إلى تصوير المرئي كما هو دون أية إضافات أو حذف.
كان محترف الفنان التشكيلي، والرسام تحديداً، أشبه بمختبر يُصور فيه الحدث بأدق تفاصيله من كل النواحي، كالمنظور والظل والضوء، وكان هناك التزام صارم من الرسام بنقل ما يراه وليس ما يحلم به أو يتخيله.
وبعد مدة من الزمن تخلى الفنان عن كثير من القيم التي قامت عليها هذه الأفكار، لكن إيمانه بمبدأ المحاكاة لم يتغير أبداً، إلى أن وُلدت الكاميرا وجاءت الصورة الفوتوغرافية كوجه كامل لهذه المحاكاة.
من هنا ظهرت المنافسة الحقيقية والشديدة بين عدسة التصوير وريشة الفنان، وبدأ الجدال حول خصوصية الفن التشكيلي أمام هذا الواقع الجديد الذي طرأ على الأوساط الفنية والعامة آنذاك وكانت له أصداء واسعة في كتابات النقاد، ودارت الأسئلة حول اللوحة الواقعية “المحاكاة” وما قيمتها أمام الصورة الفوتوغرافية، إلا أن الفنان بقي يدافع عن قيمة عمله وأهميته، فالرسم موهبة لا يمكن الاستهانة بها.
استمرت المدارس الفنية بالتطور والنمو حتى حلّت الحداثة وما بعدها، وبقدر تطور المدارس الفنية تطورت التكنولوجيا وصارت الأجهزة تنتج أعمالاً فنية بدل الإنسان مثل النحت والرسم وتقنيات التصوير، ناهيك عن الطباعة بأحجام لا نهاية لها والنحت بخامات وتقنيات لا حدود لها، إلا أن التساؤل مازال مستمراً إلى الآن في أذهان كثير من النقاد والمتلقين: هل نحن بحاجة إلى الرسم الواقعي “المحاكاة”؟
يبقى الجواب غير شافٍ ما دامت هناك نتاجات تستوقف المتلقي وتجعله في حوار معها عن كيفية إنتاجها وخاماتها وتقنياتها، وبقيت الأعمال الواقعية التي فيها تحدٍ للكاميرا والتكنولوجيا تثير كثيراً من الجدل، ذلك أنها إبداع حقيقي، مع أن هناك آراء أخرى تقول العكس، إذ يعد بعض الفلاسفة والنقاد الفنَّ ابتكاراً وليس نقلاً لما هو موجود، فمنهم من يقول: “لا يمكننا أن نطلق صفة فنان على الشخص الذي يرسم صورة شخصية حتى إن كانت دقيقة جداً كدقة الكاميرا، إلا أننا يمكن أن نسميه رساماً، فصفة الفنان تختلف عن ذلك، لأن الفنان يجب أن يبدع ويبتكر أشياء جديدة ربما من الخيال أو من خامات غير مستخدمة أو محاكاة بطريقة فكرية وليست نقلاً حرفياً للواقع.”
ويستمر الجدل حول موضوع الرسم الواقعي “المحاكاة” والمدارس الأخرى الحديثة وما بعدها.. الا أن المتلقي البسيط حسم أمره واختار اللوحات الواقعية لأنها لا تحتاج إلى تفسيرات، فهي غير معقدة وتنقل الواقع مثلما هو بتفاصيله، وهنا أصبحت اللوحات الواقعية أكثر رواجاً من اللوحات التي تنتمي إلى مدارس أخرى، وهذا دفع بكثير من الرسامين إلى الرسم الواقعي نظراً إلى سهولة بيع اللوحات وتسويقها، حتى صار الرسم الواقعي يسمى في بعض البلدان (الرسم التجاري)، إذ زاد الجدل حول هذا المفهوم، وبقي الرسامون يحاولون إقناع الجمهور بأن الرسم الواقعي “المحاكاة” هو عمل ليس سهلاً، كما يدافع النقاد والمتخصصون عن قيمة الفن الحقيقي المبني على الابتكار والخيال وأن العصر تغير كثيراً، فالتكنلوجيا اليوم أغنتنا عن جهد كبير لا داعي له، ومنهم من يقول: إذا أردنا أن نعلق على جدار بيتنا لوحة لمنظر طبيعي مرسوم بطريقة المحاكاة والتفاصيل الدقيقة حتى كأنها صورة فوتوغرافية، فلم لا نعلق صورة فوتوغرافية حقيقية وبالقياسات التي نريدها؟ كما أن بإمكاننا طباعتها على الخامة التي نريدها من ناحية الملمس، سواء أكانت قماشاً أم ورقاً أم شيئاً آخر.