سينما باراديسو .. البحث عن الزمن المفقود

343

فدوى العبود /

إن المكان الذي ينجذب نحوه الخيال، لا يمكن أن يبقى مكاناً لا مبالياً.
غاستون باشلار
******
يعتبر الفيلم الإيطالي “سينما باراديسو” Cinema paradise وهو بتوقيع الكاتب والمخرج الايطالي جوزييي تورناتوري 1988 – قصيدة عن المكان الذي يعاد تشكّله عبر الخيال وتجذره في اللاوعي؛ وهو تأكيدٌ لفكرة باشلار عن أهميّة المكان الأول وجماليّاته ودوره في تصورنا للعالم؛ والذي يفقد الكثير من سماته الواقعيّة ليتحول إلى صورة حلمية؛ فلكل منا مكانه الأول وعلى كل واحد منا –بحسب باشلار-أن يتحدث “عن طرقه ودروبه ودككه التي يجلس عليها بجوار الطريق”
ولعل الفن في مجمله مدين في نشأته إلى النسيان والغفلة وإنقاذ الزائل. وفي هذا الإطار يطرح الفيلم علاقة المكان بالذاكرة ولعل من مفارقاته المدهشة أنه قُدِّم كجزء من حياة أو بتعبير أدق (سينما داخل سينما).
نتعرف إلى المكان في ذاكرة سلفاتوري، الرجل الخمسيني، الذي كان يسمى في صغره (تيتو) إنه غائب عن بلدته الصغيرة منذ 30 عاماً. أصبح خلالها مخُرجا مشهورا، وتستيقظ ذكرياته –متزامنة مع البرق والرعد خارج النافذة-لحظة إخباره باتصال والدته التي تدعوه لحضور جنازة الفريدو.
والفريدو هذا: هو عارض الأفلام في سينما باراديسو، التي كان الطفل تيتو مولعا بالذهاب لها، وهو بمثابة الأب له، فقد كان يعمل على تغذية حب الطفل للسينما، ويسمح له بدخول حجرة العرض الصغيرة حيث تحذف المشاهد الممنوعة-بأمر من القسّ الذي يعمل مراقبا للأفلام-وحين يسأل تيتو عن مصير المقاطع المقصوصة، يتلقى وعداً من الفريدو أنها ستكون ملكه ذات يوم.
وبهذا نلتقي بالمكان وقد اكتسب بُعداً شاعرياً مُستمداً من مخيلة تيتو الذي عاش فيه طفولته وشبابه، قبل أن يغادره دون رجعة. تعرض المشاهد ضمن قطع سريع في المونتاج بما يتناسب وحدّة المشاعر وتأججها. كما غلب عليها الفضاء الواسع ليعبر عن شساعة الحنين من خلال اللون الأزرق للسماء ممتزجاً بلون الشفق.
بعد حريق السينما وفقدان الفريدو لنظره يتولى تيتو عرض الأفلام نيابة عنه، لكن الفريدو يظل إلى جانبه ويغذي فيه هذا النهم للسينما ولتحقيق ذاته؛ فهو يؤمن بشغف تيتو وبأن الأخير لديه شيء سيقوله، ويريد دفعه بعيداً عن المكان الذي يتشبث به الأول ولاسيما بعد أن أُغرم بفتاة في مثل سنه. إضافة لتعلقه بسينما باراديسو التي شكلت عالم طفولته وشبابه خلافاً لألفريدو الذي يرى هذا الحب عائقاً عن النجاح والتحقق ويدفعه للسفر إيمانًا منه بمقولة أن (كل منا له نجم يجب أن يتبعه).
ولعل من أجمل المشاهد حوارهما-بعد عودة تيتو من الجندية واكتشافه رحيل حبيبته-على الشاطئ. ونلاحظ هنا أن مرساة السفن الصدئة التي توسطت المشهد تعبر عن ثقل التجذر في مكان، أو القيد الذي يربطنا به فالمرساة إذا ثبتت غمرها ملح البحر وصدأ الرطوبة.
والأشياء تتبدل والتغيير قانون. ولا يمكن تثبت الزمن.
(ما أتيت لتبحث عنه ليس موجوداً ما كان ملكك قد ضاع).
وقد طرحت فكرة الرحيل والعودة وحنين البطل إلى موطنه في الكثير من الأعمال الفنية والروائية كما أن هناك نماذج كثيرة في السينما تناقش مسألة المكان ومفارقته بحيث يقترن نمو البطل الروحي بمغادرة المكان ومعاناة ألم الفقد والاشتياق.
نتذكر رحلة أوديسيوس في الملاحم اليونانية، رحلة حنا يعقوب في دروز بلغراد للروائي اللبناني ربيع جابر وغيرها. وفي هذه الأعمال يغادر البطل مسقط رأسه لكن المكان لا يغادره؛ بل ربما يكون نقطة ارتكاز له في رحلة وعيه الروحيّ والإنساني. في محطة القطار يهمس ألفريدو في أذن تيتو :
-لا تفكر فينا، لا تنظر للوراء، لا تكتب لنا، لا تغرق في الحنين إلى الماضي، إنس كل شيء.
فهل سيأخذ تيتو بالنصيحة ربما بما يتعلق بالبقاء بعيداً نعم. لكن المكان لم يغادر روحه بل ظل منبع إلهامه. لقد كان انعكاسا لنغميّة حياته الداخلية.
عند عودته لحضور جنازة الفريدو يجد أن كل شيء تغير، لقد تآكلت جدران سينما باراديسو وتقرر هدمها لإقامة مرآب للسيارات. وكان هدم السينما بالتزامن مع موت الفريدو دلالة على اندثار شكل الحياة وولادة عالم جديد. فقد تحولت ساحة البلدية التي كان الناس يجتمعون فيها لمشاهدة السينما إلى مواقف سيارات وفي حوار مؤثر يقول لوالدته:
(كنت دائما أخاف من العودة، كنت أعتقد أنني أقوى، وأنني نسيت العديد من الأشياء
لكن كل الأشياء هنا أمامي، وكأنني لم أبتعد مطلقا).
إن سلفاتوري شخص نستالوجي وهو في هذا يشابه والدته وحين يسألها عن سبب إهدار شبابها وحيدة مع طفليها تجيب: (كان هذا اختياري، أن أكون مخلصة دائما لأبيك، هذا هو معدني، ولا أستطيع فعل شيء حيال ذلك وأنت مثلي. أنت مرتبط جداً بالماضي والإخلاص له سلبياته، إذا كنت مخلصا فأنت دائما وحيد).
ولعل من الإشارات المهمة هي شخصية المخبول الذي كان يدور في المكان ويصرخ: هذا الميدان ملكي، هذا ميداني، لا يمكن أن نحتفظ بالمكان فالتغير هو الثابت الوحيد. كتب راهب قديم في إشارة لهذا الفقد: كانت الوردة اسما، ونحن لا نملك إلا الأسماء.
والفن ليس نتاج المخيلة فحسب بل حارس للذاكرة وهو يضاهي الزمن قوة. لذا فإن انهيار سينما باراديسو دلالة على انهيار عالم كامل، في النهاية لم يتبق لـــــــــــ سلفاتوري (تيتو) سوى المقاطع التي بقيت في الذاكرة.
قبل سفره تخبره زوجة ألفريدو إن يمر لتسلم أمانة تركت له وهي ليست سوى المقاطع المحذوفة من الأفلام وقد جمعها الفريدو قبل موته في شريط واحد وتركها لـــــــــ سلفاتوري. يشاهدها الأخير بين الابتسام والدموع ويشعر وكأن جزءا من مكانه الأول عاد إليه.
ولعل من أجمل المشاهد -وفيه تتكثف فكرة الفيلم الذي يحمل متعة بصرية وروحية عميقة. تجعل المشاهد يشارك في تخيل أمكنته التي طالتها يد الزمن – حين يحكي سلفاتوري(تيتو) لألفريدو حواراً دار ذات زمن بين قائد وجندي.
القائد: هل تذكر طاحونة الهواء التي كانت هناك؟
نعم ياسيدي، أذكر أن الطاحونة اختفت لكن الهواء لم يزل هناك.