شيخوخة الأصوات الغنائية.. متى يحال الصوت الغنائي إلى التقاعد؟

135

عادل مكي

أثيرت قبل ايام على مواقع التواصل الاجتماعي آراء مختلفة عن أحد الأصوات الغنائية الكبيرة من جيل السبعينيات، بضرورة اعتزالة الغناء، لكون صوته بدأ بالتراجع وأدركت الشيخوخة بعد بلوغه عمر السبعين أو أكثر. وللوقوف عند ذلك الأمر دعونا نتحدث بشكل علمي وموسيقي.

فنقول إن للعمر ضريبة بالتأكيد، التي تكون أشد على المطربين، الذين تعتبر أصواتهم (رأسمالهم) الحقيقي في مسيرتهم الاحترافية، فالصوت هو الأساس في مثلث يشكل الصوت والكلمة واللحن أسسه المتينة في إيصال أي عمل غنائي للمتلقي، يحاور إحساسه ويرتقي بذائقته.

في الغناء العربي نماذج عديدة من المطربين الذين بقوا على أصالتهم الغنائية، لكن أصواتهم لم تسعفهم في إبقاء حلقة التواصل مع الجمهور “صوتيا”، لذا استعانوا -بتباين فيما بينهم- بحلقة وصل مخفية مع الجمهور (الكاريزما)، او الاختفاء القسري لإبقاء حالة الحضور التذكيري لمسيرتهم الغنائية، لكي تشفع لهم فيما تبقى من مسيرتهم.

وهناك أمثلة كثيرة، كصوت فيروز التي اعتكفت عن الغناء كي تبقى صورتها وصوتها حاضرين في مخيلة المستمع العربي، احتراماً لذاتها وفنها، الذي سحر الألباب عندما كان هادراً كالأمواج المتلاطمة في بحر الألحان. ونفس الامر مع الفنان الكبير والموسيقار محمد عبد الوهاب عندما ترك الغناء واكتفى بالتلحين لأباطرة الغناء العربي كأم كلثوم وعبد الحليم حافظ ووردة الجزائرية. وكذلك الامر مع الفنانة المعتزلة شادية، ومنى عبد الغني، ومحمد الحلو، في مصر. أما في العراق فقد كان الفنان فاضل عواد أول المعتزلين، والفنان الريفي فرج وهاب والفنان والجميل قحطان العطار والفنانة الراحلة مائدة نزهت، إذ أدرك هؤلاء قيمة أن “تحافظ على صورتك وأنت في عز النجومية التي ظهرت بها ثم تقرر الاعتزال.”

جمال الصوت يتغير مع العمر، مثله مثل كل شيء في جسم الإنسان، مع وجود فروقات، فبعض الأشخاص يصابون مثلاً بالزهايمر في الخمسينات أو الستينات، والبعض الآخر يمتلك ذاكرة حديدية حتى في التسعينات، أما الطبيعي فهو تغير الصوت مع التقدم في العمر نتيجة ضمور الحبال الصوتية، حين تفقد أنسجة الحنجرة مرونتها ويتجه الصوت إلى طبقة القرار (فى الرجال الباص) (وفى السيدات التو)، كما أن هناك أيضاً عوامل مؤثرة، مثل عدم التمرين، ونسب الهرمونات مثل التيستوستيرون والهرمونات النسائية وهرمونات الغدة الدرقية TSH، ولذلك يفطن بعض الفنانين إلى تلك الحقيقة فيعتزلون بمجرد إحساسهم بعدم التمكن من السيطرة على الصوت ووجود رعشة وعدم التحكم فى القفلات والخروج من وزن الايقاع او الوقوع في مطب (النشاز).

‏‎ترجع التغيرات التشريحية والوظيفية المسؤولة عن هذا الأمر بشكلٍ رئيس إلى الضمور الوشيك لمجموع العضلات الصوتية، حين تفقد الطيات الصوتية الكتلة العضلية وتصبح نتيجة لذلك أرق بسبب حجمها المتناقص، وتسمى هذه العملية بضمور الحبل الصوت. ويمكن أن تتباين تغيرات الصوت المتعلقة بعملية التقدم في العمر بشكلٍ ملحوظ للغاية من شخصٍ إلى آخر، ففي حين يحتفظ العديد من الأشخاص بأصواتهم الرنانة الغنية بالنغمات حتى سن متقدمة، تظهر بحّة مسموعة بشكلٍ واضح لدى آخرين بعد عمر الخمسين، فالفنان الكبير ياس خضر بقي صوته هادراً حتى بعد عمر السبعين، محافظاً على رقة الأداء، فالوزن والإيقاع و(التون) الموسيقي، فلم يهرم صوته وبقي صوتاً شاباً كبيراً. كذلك الأمر مع وديع الصافي وصباح فخري وأم كلثوم، التي تغير صوتها نسبياً، إلا أنه لم يؤثر كثيراً على فخامة الأداء والحضور المبهر المميز.

يقول بعض المختصين إن التمرين والمران المستمرين للصوت البشري الغنائي يساعدانه في أن يستمر طويلاً إذا مارس المطرب يومياً تمارين غنائية خاصة تسمى (الصولفيج)، أو الغناء الطويل في الحفلات المباشرة، والابتعاد عن الأطعمة والمشروبات التي تسبب ترهل الحبال الصوتية، بنظام خاص قد يبعد الصوت عن المطبات التي تؤثر على سلامته،  فيبقى محافظاً على بريقة ويبقى هادراً، مثل الفنان الكبير كاظم الساهر والفنان محمد عبده، فهما مستمران بالغناء المباشر في الحفلات الجماهيرية التي يرى فيها بعض المختصين أنها خير مران وتمرين لتلك الأصوات، وبقائها متوهجة رغم تحفظ الكثيرين على إمكانية استمرار صوت محمد عبده في الاستمرار طويلاً، عكس صوت الفنان كاظم الساهر الذي مازال صوتاً شاباً قوياً وهادراً، ولذلك الأمر عوامل عديدة فطن لها الساهر كثيراً، فهو ملتزم بنظام غذائي صارم مع تمارين صوتية وعضلية يومية، والنوم المبكر والعزلة التامة عن العالم، التي برغم قساوتها، لكنها أبقته متوهجاً ونجماً كبيراً  في عالم الغناء.

فالمطرب الجيد ليس ذاك الذي يمتلك صوتاً قوياً فحسب، وإنما الذي يمتلك مجموعة عوامل، من بينها الإحساس بالكلمة واللحن، والشخصية الفنية التي تمكنه من اختيار الكلمة واللحن المناسبين، والوعي والخبرة بذوق الجمهور والتصوف حد الإعياء بكل حرف أو كلمة ينطق بها.

إذن، فإن مهمة المغني أو المطرب تحددها عوامل عديدة عليه إتقانها بالشكل الذي يبقي صوته ساطعاً متجدداً. لكن تبقى شيخوخة الصوت من عدمها مرتبطة بعوامل عديدة حددها العلم بالعاملين الوراثي والبدني، وقوة الحبال الصوتية، وحجم الحنجرة الصوتية، وسلامة الفكين واللسان، بالإضافة إلى قوة وصلابة سحب (النفس) الطويل الذي يبقيه متوهجاً.

إن التقدم في السن له تداعياته على كفاءة المطرب، التي تبدأ بالأفول، لكي تبقى صورة المطرب ثابتة كما كانت في عزها، فإن عليه أن يقرر الانزواء محتفظاً بشريط ذكرياته ونجاحاته على رفوف ذاكرة الزمن، محتفظاً بماء الوجه، لأن الزمن لا يرحم أبداً، والاعتزال هو المحطة الأخيرة التي لابد للجميع أن يمروا أو يستقروا فيها.