لحظة سيئة في يوم جميل.. الانزياح عن المألوف في السينما
علي رياض/
إذا جرب إنسان أن يخرج من بيته ماشياً نحو نهاية الشارع، ناظراً إلى الأمام، فهو يقوم بفعل مألوف، وإذا أراد أن يخرج بالطريقة ذاتها غير أنه ينظر طوال مدة مشيه إلى يمينه أو يساره، سيقوم بعمل مألوف غير معقول، لكنه إذا حافظ على الصورة الشكلية الأولى للفعل، مع إضافة عامل مغاير؛ كأن يحصي عدد طرفات عينه خلال المشي، فإنه يكون قد خرج عن المألوف بالضرورة، دون أن يعرف ذلك غيره، فمن يراقبه لن يرى سوى رجل يمشي من البيت إلى نهاية الشارع.
وفق القاعدة ذاتها، يمكن أن نضع صورتين أمامنا، كلتا الصورتين التقطت للبحر فوقه القمر، بالكاميرا ذاتها وبدقة وضوح متماثلين، لكن الأولى ملتقطة بيد فنان والثانية بيد هاوٍ، ماذا سيحدث؟ سنرى في الصورتين بحراً وقمراً، ضوءاً وظلاماً. وسنرى بعد التمحيص عاملاً سرياً لا يكاد يرى ولا يمكن وصفه، وإن حاولنا التنظير بشأنه. العامل الذي سيحضر في صورة الفنان ويختفي من صورة الهاوي، لمسة الفن الجمالية.
دراكولا
في السينما، وهو ما سنتحدث عنه في ثلاثة أمثلة، أدى قرن من الانتاج لاستهلاك كل المواضيع تقريبا. الخطوط العريضة نفدت فرص الأصالة فيها، لكن التفاصيل الداخلية تبقى حصينة ضد النفاد، ببساطة لأن المخيلة لا تقف عند حد، الأمر تماماً كما هو في شخصية “دراكولا” سواء في النسخة الروسية التي انتجت عام 1920 أو النسخة الأميركية (لقاء مع مصاص دماء) عام 1994، أو النسخة البريطانية- الألمانية (العشاق فقط يبقون أحياء)، التي تمكنت من كسر جدار الشكلي والدخول في قائمة أفضل 100 فيلم في الألفية الثالثة بمشاركة 172 ناقداً سينمائياً من جميع انحاء العالم قاموا بإعداد هذه القائمة.
الفتاة التي امتلكت كل المواهب
في عام 1932 أخرج الاسكتلندي فيكتور هالبيرن، أول فيلم “زومبي” في التاريخ، ليصل عديد الأفلام المتناولة لهذه الفكرة الفانتازية إلى المئات. وهي ثيمة تعالج فكرة القيامة النسبية، التي يصل فيها العالم إلى مشارف نهايته بظهور الآلاف من الموتى البشريين السائرين بلا عقل، والآكلين للحوم البشر، حتى يواجه مجموعة (أو فرد) من الناس مخرجات نهاية العالم بمسيرة نجاة تختلف من فيلم إلى آخر، وتتشابه في المزاج العام الذي وصلت الطرق التقليدية السينمائية بأساليبها الباحثة عن الإثارة والمتعة من خليط (الرعب) مع (التشويق) وأحياناً (الكوميديا)، إلى طريق مغلق في محاولة الخروج عن هذا مألوف الزومبي الهوليودي.
لكن كولم مكارثي، عاد عام 2016 متأبطاً رواية مايك كيري “الفتاة ذات المواهب كلها” ليخرجها فيلماً يبقى في إطاره الخارجي داخل المألوف ويبتعد عنه أميالاً من الداخل. كما لو أنه يضع باقة ورد على قبر هالبيرن، وتقوم فكرة الفيلم على إصلاحية تضم مجموعة من الأطفال المكبلين لمحاولة تدجينهم وإعادتهم لطبيعتهم البشرية، ثم تخرج الأمور عن السيطرة وتبدأ رحلة النجاة التي تخوضها مجموعة تتألف من الطفلة ميلاني والتي لعبت دورها سينيا نانوا، ود.كارولاين كالدويل والتي لعبت دورها غلين كلوز، وهيلين جستينو والتي لعبت دورها جيما آترتون، فضلا عن اثنين من العسكر.
في رحلة هؤلاء الخمسة تطغي الصورة بقوة على الموت، وهو ما يمزج الجمال بالكآبة، حتى يكاد المشاهد ينسى فكرة الخوف. الأمل الذي يبدأ به الفيلم، يتضاءل عبر الخضار المستشري على المباني بطريقة مدهشة، وعبر السماء الصافية، وطبعا عبر أفواج الموتى السائرين. الناقد السينمائي مارك كيرمود وصف الفيلم بـ”المستفز” و”المفعم بالخيال”، قائلاً “فيلم (الفتاة التي امتلكت كل المواهب) هو الصورة التي يجب ان تنتجها السينما البريطانية، مفعم بالخيال ومستفز، لا يخاف من التحدي ويغرز أنيابه في مادة معقدة، برافو!”
ربيع
في هذا الفيلم، لا يوجد الكثير من الأفكار المعقدة، الشاب الأميركي إيفان يترك عالماً كئيباً في أميركا ويقرر السفر إلى إيطاليا. ثم يحب الفتاة الجميلة لويس، التي أدت الممثلة الألمانية نادية هيلكر دورها بإتقان مذهل. لكن الفتاة وحش أيضاً، ذو طبيعة مفترسة وتمتلك الكثير من خصال مصاصي الدماء الفانتازية.
الكثير من النقاد استشكلوا على الفيلم، أنه أهمل الجانب المرعب واسترسل في الرومانسية صورة ونصاً، كانت الصورة متفقة مع العنوان، ربيعية للغاية، وكانت مشاهد الوحش لويس تقفز مثل لحظات سيئة في يوم جميل.
ربما يرى ذوو النظرة الأكاديمية الضيقة أن المألوف سلطة، وأن السلطة يجب أن تسود، حتى وإن كان محور حديثنا الجمال، وهنا اتحدث عن توازن الحب والرعب الذي طالب به النقاد، الإثارة التي افتقدوها في الفيلم، لأنه ببساطة قرر أن يحمل جوهر الواقع الذي لا يحافظ على نمط، ولا يقف عند منطق. لكن هذا لم يمنع الفيلم من حصد معدل تقييم 88% كمحصلة لآراء 49 ناقداً على موقع (روتن توميتو). نعم، فلمسة الجمال لا يمكن أن تختفي وراء سيادة المألوف.
إبادة
لن اتردد في القول، إن هذا الفيلم جلب أطناناً من الكليشيهات والثيمات المستهلكة في السينما الأميركية، عن الفضائيين ونهاية العالم، وصراع الخير والشر.. الخ، وحطمها جميعاً بضربة جمال تعكس كل توقعات المشاهدة.
يبدأ الفيلم بفقاعة جغرافية متنامية، ابتلعت جميع البعثات العلمية والاستكشافية الداخلة إليها، ليأتي الدور على زوجة أحد العسكريين الأميركيين، بعد أن استطاع الخروج من الفقاعة الخطيرة، لكن بحال صحي ونفسي حرج، قبل أن يدخل في غيبوبة لا يخرجه منها غير فك أسرار هذه المنطقة.
في داخل هذه الجغرافية تتزاوج الأحماض النووية للأحياء والجزيئات للجمادات بشكل مجازي، فتتشكل الأشجار على أشكال بشر، وتتلون الزهرة الواحدة بألوان عدة، وتغطي الجدران العديد من أنواع العفن المختلفة بصور تجعل الفيلم متحفا للفن التشكيلي الرمزي والسوريالي.
أوسكار إيزاك، بدقائق ظهور قليلة يمنح دور الجندي كين، ثقلاً هائلاً في الفيلم، تعززه ناتالي بورتمان، التي لعبت دور الزوجة لينا، والتي تشارك مجموعة من النساء في المهمة الانتحارية. المتعة البصرية التي يحققها مخرج الفيلم أليكس غارلاند –مخرج التحفة السينمائية إكس ماكينا- تأتي خطوة بخطوة مع حمولة فلسفية تتحدث عن اليأس والإنسان والموت والكينونة.
لكن في النهاية تبقى النظرة الخارجية هي عن فيلم يتحدث عن كائنات فضائية هاجمت الأرض، وهددت الوجود في ثيمة خيال علمي مستهلكة، ومضمون نافر عن المألوف.ِ