مبدعات بأنامـل مغايــرة

304

يوسف المحسن /

لا حدود واضحة تفصلهن عن فضاء مفتوح، أطلقن حمامات الاكتشاف الدائم لأرض جديدة، فوجدن مساحات من خضرة اللون المبتكرة، ووسط جزيرة من العادات والتقاليد التي سورت النشأة المجتمعية، جاءت اشتغالاتهن بمثابة عبور حر صوب عوالم مغايرة من التأمل والتحليل والإنتاج الإبداعي، حولن المتاح والمهمل إلى أعمال مضيئة دافقة بالحياة، من خلال الأنامل الناعمة الحالمة بعالم أجمل.
فاطمة أحمد، ونرجس هاشم، وزهراء حيدر، سماويّات يضعن هوية جيل إبداعي في مواجهة مع المعتاد من مجسّات التلقّي…

خدع سينمائية وميك أب:
كدمات ورضوض وخدوش في الوجه والجبين وأعلى الرأس، أصابع مبتورة وسيقان ممزقة وأظافر رُفِعَتْ من مكانها، عيون جاحظة وآثار ضرب، وتفاصيل أخرى تثير الإدهاش، هي ما تميز تجربة الفنانة الشابة فاطمة أحمد، ذات الأعوام الخمسة عشر، مشاهد هي أقرب إلى الحقيقة وتبدو خادعة للرائي. فاطمة تقول إنها تجد في فن الخداع البصري فرصة لإظهار مهاراتها وإمكانياتها الابداعية، وفرصة مماثلة لكشف وفضح الجانب العنيف من حياة الإنسان اليوم، تضيف:
ـ أنا صانعة مكياج درامي وسينمائي، أحاول تجسيد وتكوين ملامح أخرى للوجه وللأيدي والأصابع، إتمام نوع كهذا من الاشتغالات يمنحني الرضا الذي أبحث عنه، ويقنع التوق الذي يتملكني لإنتاج الجديد والمغاير من الأشكال والأقنعة.
*كيف كانت البداية؟
ـ بدايتي كانت من لحظة متابعتي للخدع البصَرية والمكياج السينمائي بمؤثراته الخاصة عبر الأعمال الفنية ..الأفلام والمسلسلات، ولقد وجدت تطوراً متسارعاً لهذا النوع من الاشتغال الفني في العراق، ومن خلال مئات المحاولات والإخفاقات استطعت أن أصل إلى مرحلة لابأس بها من الإتقان في تشكيل هذا النوع من الخدع.
*ما المواد التي تستخدمينها؟
ـ المتوفر من المواد المتاحة، الألوان وأدوات المكياج، المهم أن تكون سهلة الإزالة عن الوجه والجلد، والأهم أن لا تُخلف أضراراً بعد الانتهاء منها، وبالتأكيد هنالك اليوم ثورة في ميدان الخدع البصَرية السينمائية، وهذا مقرون بالقدرات والإمكانات الإنتاجية.
*تحدثتِ عن الرضا.. هل من تفاصيل؟
ـ فن المكياج يعمد إلى تجميل، أو تشويه، أو تكبير، أو تصغير الوجوه والأعمار، هو أداة إقناع للإشارة إلى تشوهات تحدث للشخصية الدرامية، أو تعديلات تجري عليها، وهو جزء من العمل الفني وحامل لرسالة الاقناع، يكرس مصداقية المشهد أو الجو التمثيلي، وعندما أكون جزءاً من كل هذا فأنا أحصل على الرضا في داخلي.
*أجد أنك تميلين إلى تجسيد الوجوه المرعبة؟
ـ نادراً ما أجد اهتماماً بهذا النوع من الأعمال الفنية، والقليل من الأشخاص الذين يلجون هذا الميدان، لهذا أسعى إلى الدخول من خلاله، لأكون ملهِمة ومشجِعة لمبدعين آخرين، وللأمانة، فإن في يومياتنا ما يدعو إلى مثل هذا الاشتغال.
*من هم جمهورك؟
ـ أقمت المعرض الفني الأول لي في البيت الثقافي، الحمد لله أعمالي وجدت ترحاباً وإعجاباً فاقا الوصف، وأتواصل مع جمهوري والمتابعين لي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ومن المؤكد أن ندرة الأعمال السينمائية والدرامية تقف عائقاً أمام طموحاتي، لكنني في أول الطريق، وسوف أستمر في التدريب وصناعة الأقنعة والخدع اللونية البصرية.

الكتب المهملة:
في مقابل انحسار الاعتماد على الكتاب الورقي أمام التقنيات الحديثة في نقل المعلومات وحفظها، التي تترك أطناناً من الكتب المهمَلة، يجري الحديث عن وسائل فنية معبرة يكون فيها الكتاب ركناً مهماً.
الفنانة الشابة زهراء حيدر ابتكرت طريقة لإعادة استخدام الكتب المُستغنى عنها، أو المنهجية التي يجري تعديلها، والمجلدات القديمة، إذ توظّف موهبتها لتصنع أعمالاً نحتية بالغة الجمال من خلال الحفر على الورق، صفوف من الكتب تقوم بالنحت عليها لخلق مساقط رؤية ومناظر ووجوه ومعالم أثرية، إضافة إلى رموز وكتابات ولوحات، بالاعتماد على الخامات المتروكة في البيئة المحيطة، والنتيجة أنها، وعبر اشتغال مغاير، تحافظ على المشاهد الكلاسيكية وحضور الكتب في زوايا المنازل كمكوِّن جمالي ومعرفي.
زهراء حيدر عملت على كسر أوقات الروتين والفراغ من بوابة الحِرف والمشغولات اليدوية، لتبدأ بعدها الرحلة في فضاء النحت على الكتب، وقد اجتهدت لتطوير وتنمية موهبتها من خلال البحث والمتابعة وسجلت حضوراً في المعارض والملتقيات الثقافية. عن ذلك تقول:
ـ كنت لا أجيد الرسم، اعتمدت على الطباعة وترسيم الأبعاد، أضع الأشكال التي أتخيلها وبحسب المقاسات، لذلك قوبلت تجربتي برفض وصل إلى التنمر في البداية، كثيرون ردّدوا بأني أتلف الكتب، لكن إصراري وحبي لهذا النوع من العمل الفني كان عتادي لمواجهة كل ذلك، شرعت بتعلم الرسم لإتقان الألوان والأبعاد ومساقط الضوء، وحين تكاملت أدواتي إلى درجة مُرضية ومقبولة، عدت إلى النحت على الكتب وتكوين الأشكال واللوحات الفنية بما أشعرني بالراحة والسعادة كوني نجحت -إلى حد ما- في تكوين أشياء جديدة، وبتجربة فيها من الفرادة والمغايرة الشيء الكثير.

الجلود إلى لوحات :
لا حد يقف حائلاً أمام فضاء التجديد الإبداعي لخيالات الفنان، اشتغال إبداعي آخر يحوِّل الحرفة القديمة إلى فنٍّ يُعيد إنتاج التراث ويبدع في تقديمه بأبهى صورة، تحويل الجلود إلى لوحات فنية غاية في الألفة والجمال هو ما قدمته الفنانة التشكيلية نرجس هاشم في تجربة مغايرة أخرى، نرجس استهوتها الأعمال اليدوية والرسم منذ نعومة أظفارها، فدعّمت هذه الموهبة بالدراسة الأكاديمية من خلال التحاقها بمعهد الفنون الجميلة / قسم التصميم، وعملت على إحالة قطع الجلد إلى لوحات فنية وأعمال يدوية زاهية من خلال مراعاة التفاصيل التي لا تلتقطها غير عين الفنان، قدمت العديد من الأعمال المتميزة لمواضيع مختلفة، مثل تصميم الزهور ورسم اللوحات البغدادية والمناظر الطبيعية من خامة الجلود، مع إضافة الأكسسوارات وبعض الخامات المتاحة لإضفاء لمسة جمالية مبتكرة. عن تجربتها تحدثت لـ (الشبكة):
ـ طوّعت خامة الجلود الصناعية، وليست الطبيعية، لغلاء سعر الأخيرة لإنتاج لوحات، في السابق كانت أعمال الجلود مقتصرة على الأحزمة والأحذية والحقائب وأشياء أخرى، وتماشياً مع متطلبات الفن الحديث والواجبات البيئية، ورغبة مني في دخول أفق تعبيري جديد، أدخلت الاشتغال التشكيلي على هذه المادة، ومن المؤكد أني أسعى إلى صناعة لوحات تستحق المشاهدة والاقتناء، ولاسيما أن الجلود –كمادة- تدخل في مختلف نواحي الحياة: كأثاث منزلي، أو مكتبي، وبما يجعل عملية دمج اللوحات المصنوعة ممكنة وبالغة التنسيق.
*وكيف تشرعين بعمل لوحة تشكيلية من الجلد؟
ـ إن أي عمل فني من هذا النوع يمرُّ بمراحل عدّة، أولاها بناء الفكرة، فكرة العمل، وبعدها تصميمها على الورق، ومن ثمَّ التعامل مع القوالب الجلدية لإنتاج وصناعة اللوحة، وهي عملية مجهدة وطويلة، لكن رحلة العمل فيها مليئة بالإمتاع، لما يعكسه هذا الاشتغال من حداثة وطراز كلاسيكي في ذات الوقت، فاللوحة تجمع بين متضادات من حيث التكوين والتناول وبالتالي هي تمتلك فضاءً تعبيرياً مفتوحاً قد انسلَّ من المغايرة والتجديد.
التجارب الثلاث للمبدعات فاطمة أحمد وزهراء حيدر ونرجس هاشم، شكّلت انعطافة مهمة في الحضور النسوي والشبابي بشكل خاص، بما يحمله من فضاء تعبيري وتوق للتجديد والتجريب والمعاصرة، تجارب سارت على طريق ترميم الذائقة وإشباعها بعوالم ساحرة مبنية على الاستعانة بالمتاح والمهمَل والمتروك من الأدوات والمواد، وما تميزهن هي الحيوية وروح التفاؤل والرغبة بشق مسارهن الخاص، وهن بذلك يفلحن بتحريك مياه راكدة داخل مشهد ثقافي يحاول أن يتعافى.